متى تذهب عنكم السكرة وتأتيكم الفكرة

  • 134

* بعدما رأينا العواقب الوخيمة للتهور المجافي للحكمة والحماس العاري عن الدليل والتصرفات التي لم تتقيد بضوابط الشريعة.

* بعدما رأينا المواقف التي استندت إلى القراءة الخاطئة للواقع والحسابات المغلوطة وعدم النظر في المآلات.

* بعدما رأينا الإعراض عن العمل بالنقل والانحراف عن مقتضى العقل ومقابلة نصح الناصحين، وتحذير المثقفين بالصد بل بالتشويه والطعن في الدين.

* بعدما رأينا دغدغة العواطف وإلهاب المشاعر بالشعارات البراقة، والتحليق في الأوهام بالرؤى والخزعبلات.

* بعدما رأينا كيف غرر البعض بالعامة والبسطاء شبانًا وشيبًا، رجالًا ونساء، فلم يكونوا عليهم أمناء، ولا لهم ناصحين، ولا بهم رفقاء.

* بعدما رأينا الثمن الفادح لكل ذلك، وتتابع الخسائر والمفاسد، وسفك الدماء.

أم يحق لنا أن نتساءل متى تذهب عن القوم السكرة وتأتيهم الفكرة ؟

فأعقل الناس من لم يرتكب سببًا               حتى يدري ما تجني عواقبه

أقول هذا بعدما ظهر بعض المشايخ ممن كان لهم دور كبير في التهييج والإثارة، والتغرير بالناس على شاشات الفضائيات، فعادوا بعد غياب ليمارسوا هوايتهم في الطعن وتمزيق نسيج الأحرار، والدفع بالشباب إلى الهاوية حتى ينالوا وصف الثوار، ولكنهم هذه المرة لا يتكلمون من الميادين أو مدينة الإنتاج الإعلامي، ولكن من وراء البحار بعدما تمكنوا من الخروج من البلاد طلبًا للنجاة من السجن والإعدام كما يبررون لأنفسهم.

تساءلت والقلب يعتصر من الألم:

أبدلا من أن تُمضوا ما بقي من أعماركم في التوبة والندم، تصرون على عدم الاعتراف بالخطأ عنادًا واستكبارًا؟! وتحاولون صرف الناس عن اكتشاف الحقيقة المُرة، والوصول إلى النتيجة المؤلمة التي عنوانها شيء واحد أنكم ورطتم الأمة، وجلبتم عليها البلاء والغمة، ثم نجوتم بأنفسكم بعيدًا عن تلكم الفتن المدلهمة؟! وكأنكم نسيتم وقفتكم بين يدي من لا تخفى عليه خافية، في موقف يجل فيه الخطب، ويعظم فيه الهول والكرب.

والسؤال الذي نطرحه عليكم:

إن كان الأمر في مصر كما كنتم تفتون، وللناس تزينون، وللشباب تدفعون وتزجون، إن كان هذا جهادًا وشهادة كما كنتم تقولون، فلماذا تركتموهم يلاقون مصيرهم وحدهم ؟ فلم تحرصوا على نيل هذا الشرف، ولم تظفروا بهذا الفوز.

ألم تعلموا بأن مصداقية الداعية مبناها على أن يكون أول من يعمل بما يؤمن به، وفي سيرة رسولنا -صلى الله عليه وسلم- ما يدلنا على ذلك حيث كان أشجع الناس، وأثبتهم في الوغى، حتى كان الصحابة رضوان الله عليهم يقولون: كنَّا إذا حمي الوطيس احتمينا بالرسول -صلى الله عليه وسلم-، ويوم حنين لمَّا فر من فر ثبت هو بأبي وأمي صلى الله عليه وسلم أمام الجحافل وهو يقول: «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب» صلوات ربي وسلامه عليه.

وهل ترك خالد -رضي الله عنه- أصحابه في مؤتة وانسحب هو طلبًا للسلامة، وبحثا عن العافية ؟! أم رضي للناس ما رضي لنفسه، ألم تقرأوا في الكتاب قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف:2-3)، وأيضًا قال جل وعلا في كتابه على لسان شعيب: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى? مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ) (هود:88). 

وإن كان ما قلتموه خطئا وهو ما قطع الواقع به، وأثبتته الأحداث، وبرهنتم عليه بخروجكم من البلاد، وقبل كل ذلك أدلة الشرع ومنهج الأنبياء والذي كنتم تفتون به في الماضي ما زال شاهدًا عليكم، بل كتب البعض في ذلك كتبًا كما فعل الشيخ سعيد عبد العظيم في كتابه (تحصيل الزاد لتحقيق الجهاد) ولا أدري لماذا تناقضتم فالواقع لم يتغير منه شيء، وأزمة القوة لا زالت كما هي بيد غيركم.

وعلى كلٍ كان الواجب عليكم أن تراجعوا أنفسكم، فتقروا بالخطأ، وتحاولوا إصلاح ما أفسدتم، فالرجوع إلى الحق فضيلة، والتمادي في الباطل رذيلة، ولأن يكون المرء ذنبًا في الحق خير من أن يكون رأسًا في الباطل.

لماذا الإصرار على مواصلة الأخطاء وعدم مراجعة النفس إلا بعد فقدان كل شيء ؟ إن هذا ليذكرنا بما حدث في الثمانينيات والتسعينيات حيث سلكت الجماعة الإسلامية ومن معها من التيارات الجهادية مسلك العنف والصدام، وألبسته ثوب الجهاد خطئا وزورًا، فنصحهم الناصحون، وحذَّرهم المشفقون، وأقاموا لهم الأدلة والبراهين على خطأ مسلكهم، وأن عاقبته ستكون خسارًا ووبالًا ليس عليهم فقط بل على الحركة الإسلامية كلها، فقابلوا النصح بالتهكم والسخرية، والأدلة بالسب والطعن والتخوين، وما أشبه الليلة بالبارحة، وأصروا على السير في الطريق حتى نهايته، فلمَّا عاينوا العواقب الوخيمة، ورأوا النتائج الأليمة، ففُتن من فُتن، وقُتِل من قُتِل، وعُطلت الدعوات، وصودرت مساجد يذكر فيها اسم الله، وزُجَّ بالألوف في السجون؛ فلا الدين نصروا، ولا الأعداء كسروا.

أدركوا حينئذ خطأهم، وبأن للجميع صدق الناصحين، وإن كانوا هم لذلك من الجاحدين، فأطلقت المبادرات، وأُعلنت المراجعات، ولكن كان هذا بعدما دُفِع الثمن الباهظ بلا فائدة ولا طائل، فكان الأمر كما قال القائل:

نصحت لعارض وإخوان عارض                 فلم يستبينوا النصح إلا في ضحى الغد

والمؤسف حقا أنهم لم يستفيدوا من التجربة، بل كرَّروا نفس الأخطاء، وإن تعجب فعجب أن تعلم أن جماعة الإخوان كانت تنكر عليهم ذلك وتراه إرهابًا جالبًا للمفاسد، مُضيِّعًا للمصالح، منافيًا للشرع لا يمت لأحكام الجهاد بصلة، وكتاباتهم في ذلك لا زالت شاهدة.

فمتى يفيقون من سكرتهم، ويثوبون إلى رشدهم، ويعلموا أن صديقك من صَدَقَكَ لا من صَدَّقك، وحبيبك لا من جاراك بل قوَّمك.    

فأي دعوة إسلامية، بصرف النظر عن التفاصيل السلفية، ليست جلبابا ولحية إنما منهج حياة قائم علي قرآن وسنة بفهم الصحابة والتابعين، وليست العبرة بالتسمي وإنما العبرة بالتزام المنهج ولو خالف العاطفة والهوى، فكم من أحد يسمي سلفيا وهو بعيد كل البعد عن قواعد وأصول وأهداف المنهج السلفي، اللهم ارزقنا حسن اتباع النبي علما وعملا وسلوكا وتعاملا وتصورا، أول قاعدة من قواعد الاستدلال هي تقديم النقل علي العقل؛ فالسلفي يسلم إذا جاءه الدليل وإعمال العقل عنده في النص وليس خارج النص .. لماذا تقدم السلفية النقل على العقل؟

أولا: لأن الله -عز وجل– تعبدنا بالنقل قبل العقل قال تعالي: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) (الإسراء:17)، ولم يقل حتى ننصب عقولا. وقال الله: (اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ) (الأعراف:3)، ثانيا: لو كان الدين بالعقل لكان أولى الناس باتباع عقله هو النبي –صلى الله عليه وسلم- وهو أعقل العقلاء عند كل أهل الملة الإسلامية، ومع ذلك قال له تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الشورى:52)، ثالثا العقل السليم يوجب التسليم لمن هو أعلم وأحكم منه، فهل هناك أعلم من الله تبارك وتعالى؟ فأولى الاتباع هو اتباع كلامه واتباع رسوله، وشيخ الإسلام في »درء تعارض العقل والنقل»، ضرب هنا مثلا بالطبيب الذي يذهب إليه المريض فيكتب للمريض دواءا، وقد يكون الطبيب يهوديا، ومع ذلك لا يستخدم المريض عقله مع الدواء لعلمه أن الطبيب أعلم منه. وخلاصة الكلام: فإن  السلفية تعظم العقل ولكن تجعله في مكانه اللائق به وهو "الإعمال" وذلك للوصول إلى الحق باستخدام النصوص الصحيحة لا إعمال العقل خارج النصوص فيخسر المسلم تنفيذ النص ويخسر أيضا وضع العقل في مكانه، ومن باب أولى طبعا تقديم النقل على العاطفة والهوى، نعوذ بالله من العاطفة في غير موضعها.

والقاعدة الثانية للمنهج السلفي هي رفض الـتأويل الكلامي، والتأويل المقبول هو صرف المعنى المتبادر إلى الذهن من اللفظ بقرينة يحتملها سياق الكلام؛ فمثلا عندما يقول أحد: "رأيت أسدا يخطب على المنبر" فلا يتخيل أحد أن الذي يخطب الأسد (أي الحيوان، وذلك لأنه لا يتكلم) بل ينصرف المعنى الذي يأتي في ذهن المستمع من لفظة أسد إلى رجل قوي وهذا لدلالة السياق واللغة؛ (ففي اللغة أسد تحتمل معنى الرجل الشجاع ) وهذا التأويل مقبول، ومن معاني التأويل اللغوية:

أولا: التفسير: كقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس -رضي الله عنه: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل».

ثانيا: حقيقة الأمر أو ما يؤول إليه: من قوله تعالى: (يوم يأتي تأويله).

ثالثا: العمل بالأمر كقول السيدة عائشة في حديث للبخاري ومسلم: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُكثِر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي، يتأوّل القرآن. وذلك بعد نزول سورة النصر أي يعمل بالقرآن لقوله تعالى: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) (النصر:3).

أما التأويل الكلامي وهو المرفوض، وهو تأويل الفلاسفة وأهل الكلام، فهو صرف المعنى المتبادر إلى الذهن من اللفظ بدون قرينة كما حدث في باب العقيدة فأوّلوا صفات الله، وكما حدث مثلا في باب الحلال والحرام وأولوا الحديث: (لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ، يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ وَالحَرِيرَ، وَالخَمْرَ وَالمَعَازِفَ...) (البخاري:5590)، فقالوا المعازف لا تحرم إلا إذا أجتمع معها الحر والحرير والخمر، وهو تأويل خاطئ لا قرينة عليه محتملة؛ فالسلفية ترفض هذا التأويل بل من مهامها العلمية دحض شبهات هؤلاء المحرفين (والشيخ العثيمين يقول أن الأولى تسمية التأويل الكلامي تحريفا لموافقة هذا للفظ القرآن)، وهذه المهمة العلمية للسلفية نفهمها من حديث قال فيه النبي –صلي الله عليه وسلم-: (يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلين) (صحيح- مشكاة المصابيح:248)، فاللهم اجعلنا ممن يحملون هذا العلم بعدل وفهم وسنة ونية صالحة.

القاعدة الثالثة: من قواعد المنهج السلفي هي كثرة الاستدلال بالآيات والأحاديث؛ وذلك لأن الوحي فيه النور والشفاء والهدى؛ كما قال الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (يونس:57)، كما أني سمعت كلاما للشيخ محمد إسماعيل -حفظه الله- في أحد الدروس يتكلم عن أهمية ذكر الآيات والأحاديث، وأن لها معجزة تأثيرية, فاستوقفتني كلمة المعجزة التأثيرية فيا سبحان الله يسمع الكفار "سورة النجم" فيسجدون جميعا وهم على الكفر تأثرا بالقرآن الكريم، ويمنع أحدهم النبي -صلى الله عليه وسلم- من إكمال قراءة: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) خوفا من هذه الصاعقة بالرغم من أنه على الكفر، فلا بد لأهل الدين عند مخاطبة الجميع، المسلمين والكفار، أن يكثروا من ذكر الآية والحديث لا نقل كلام علماء وفقط، ولكن نقل كلام العلماء يكون بالأدلة لتحصيل ما فيها من هدى ونور ورحمة وتأثير على قلوب وعقول السامعين .. نسأل الله أن يرزقنا القرآن والسنة وهديهما.

والأصول العلمية للدعوة السلفية هي القضايا الكلية التي يتربى عليها الأفراد والمجموعات بمعني أنه لا بد من تغطيتها عند عمل جلسة دعوية، أو معسكر علمي، أو غيرها من الأنشطة، فهي القضايا التي تحاول الدعوة بثها في المجتمع وإيجاد طائفة مؤمنة بهذه الأصول تنشرها بين الناس، وهي التوحيد، والاتباع، والتزكية، وسنتناولها باختصار تباعا إن شاء الله.

فالأصل العلمي الأول من أصول الدعوة السلفية هو "التوحيد" وهو أول ما يبدأ به الداعية إلى الله يقول الله تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) (محمد:19)؛ فهذا علم ليس فقط قول وفي حديث بعث معاذ، لما بعثه النبي إلى أهل اليمن، قال له: «إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللَّهِ، فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ...» (البخاري:1458)، وعند الدعوة السلفية قضايا التوحيد كلها مهمة، ولكن نتناولها في أربعة محاور لحدوث الخلل العملي فيها، وطبعا هذا في نقاط وباختصار شديد، الأول: إثبات الأسماء والصفات بدون تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل لقوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى:11) قال الأوزاعي، متحدثا عن الأسماء والصفات: "أمروها كما جاءت بلا كيف".

الأمر الثاني: توحيد الله بصرف العبادة كلها لله وعدم الإشراك به في شيء، ولا يتوقف هذا عند الصلاة أو الزكاة، بل كل العبادات لقوله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام:162-163) وهو ما يسمي بتوحيد الإلوهية.

الأمر الثالث: توحيد الله -عز وجل- بالطاعة ؛ فهو عز وجل الذي له الحكم، وأي تشريع يخالف تشريعه -عز وجل-  فباطل ومردود؛ يقول تعالى: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف:54)، ويقول أيضا: (إن الحكم إلا لله).

الأمر الرابع: إن كل هذه القضايا، وجميع قضايا التوحيد الأخرى، كل لا يتجزأ ونهتم بها؛ فالتوحيد عامة أولا، فلا نهمل جانبا من جوانب التوحيد على حساب آخر.. اللهم أحينا علي التوحيد وأمتنا على التوحيد.

الأصل الثاني من الأصول العلمية للدعوة السلفية هو "الاتباع" ونعني به التربية على اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- ونعرض هذا الأصل في أربعة نقاط للتوضيح باختصار، أما الأولى فهي أن كل كلام النبي وحي ؛ قال الله تعالى: (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (النجم:4)، وقال النبي –صلى الله عليه وسلم–: «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه«، وأما الثانية فهي أننا مأمورون باتباع النبي –صلى الله عليه وسلم- في كل شيء، وليس في الفرائض فقط، فيظن البعض أن الاتباع في الصلاة والصيام والعبادات فقط، وإذا قلت له هدي النبي في الأخلاق أو التصورات أو المعاملات لم يتبعه، وهذا خطأ كبير، يقول -عز وجل- : (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، فكل ما هو لله لا بد أن يكون على سنة رسول الله؛ لقوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (الكهف:110)؛ فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا صوابا كما يقول الفضيل بن عياض وخالصا هو ما كان لله دون إشراك به وصوابا ما كان على السنة دون خروج عليها.

وأما الثالثة فهي أن الوحيد من البشر الذي له الاتباع المطلق في الدين هو النبي -صلى الله عليه وسلم- وتنبني هذه على الإيمان بأن السنة وحي، وبأن اتباع النبي في كل الأمور واجب، وكما يقول الإمام مالك: كل يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب هذا المقام (أي النبي صلي الله عليه وسلم)، فعجبا لمن يقول أنه سلفي ويترك قول النبي لقول أحد كائنا من كان أو جماعة أي ما كانت، وانظر لعبد الله بن عمر لا يكلم ابنه حتى يموت، لتقديمه رأيه على كلام النبي، ويتوعد الناس بالعذاب لأنهم يقدمون قول أبي بكر أو عمر على قول النبي -صلى الله عليه وسلم- فكيف بغيرهم؟! نعوذ بالله من تقديم أي قول على قول النبي أو أي فعل على فعل النبي.

الرابعة كمال المحبة للنبي -صلى الله عليه وسلم- لقوله عليه الصلاة والسلام: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» (البخاري:15)، فكيف بمن يقدم حب الشهوات على حب النبي -صلى الله عليه وسلم- اللهم ارزقنا الاتباع الكامل والحب الكامل للنبي وسنته، ونعوذ بالله أن نقدم قولا أو عملا أو رأيا على كلام النبي، واللهم ارزقنا صحبة النبي في الجنة.

الأصل الثالث من الأصول العلمية للدعوة السلفية هو: "التزكية"، والتزكية هي طهارة النفس من آفاتها، وتنمية النفس وتربيتها بالعمل الصالح وبأعمال القلوب وأعمال الجوارح، وهي الشيء الذي أقسم عليه الله -عز وجل- أطول قسم؛ وذلك في سورة الشمس ثم قال -عز وجل-: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)؛ فالفلاح كل الفلاح لمن زكى نفسه فتعلم العلم ثم عمل به ثم دعا إليه ُثم صبر على ما يلاقيه في طريق الدعوة إلى الله، ولا بد من تزكية النفس لأن العلم إذا نزل علي نفوس خربة قد يكون أضر من الجهل وذلك يظهر في الأحاديث التالية: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه... وذكر ثلاثة رجال ذكر منهم: ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال: كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار...» (مسلم:1905)، وعن كعب بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :«من طلب العلم ليجاري به العلماء أو ليماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله في النار» رواه الترمذي (صحيح الجامع: 6383)، فالعلم للتزكية يكون بالعمل والدعوة فكما قيل: «هتف العلم بالعمل فإما أجاب وإما ارتحل»، ولهذا تهتم السلفية بالتربية على علم التوحيد والاتباع لتحقيق ثمرة التزكية التي تكون سببا في الفلاح.

نسأل الله أن يزكي نفوسنا ويرزقنا التقوى والعمل الصالح وأن يصلح قلوبنا.