مواقف الدعوة السلفية بين التأصيل الشرعي والواقع المرعي (2)

  • 196

 
ثانيا: رفض خطاب العنف والتحذير من الصدام 
وكما كان موقفنا واضحا حاسما في رفض الخطاب التكفيري؛ لما فيه من مخالفات شرعية وانحرافات منهجية، وإحياء لمسالك أهل البدع والأهواء من الخوارج ، كان موقفنا واضحا وحاسما كذلك في رفض خطاب العنف والإثارة والتهييج ودعوات الصدام والمواجهة الدموية، والتي تصبح نتيجة طبيعية لإطلاق الأحكام بتكفير المسلمين دون مراعاة الضوابط الشرعية .
وكما بينا أن رفضنا لخطاب التكفير كان من منطلق ثوابتنا المنهجية وأصولنا الشرعية ، كذلك رفضنا للعنف والصدام ، فهو ليس تخاذلا ولا جبنا، بل مراعاة لاعتبارات :
1 – شرعية. 
2 – واقعية. 
3- تاريخية. 
أولا: الاعتبارات الشرعية :
1 – حرمة الدماء وعظم شأنها عند الله: 
لقد آتت آي القرآن وأحاديث النبي العدنان تعظم حرمة دم أهل الإسلام والإيمان، وتحذر أشد التحذير من إراقتها بغير حق، وتتوعد قاتل النفس بأشد أنواع الوعيد، وحسبك أن الله قرن بين قتل النفس بغير حق والشرك به، فقال تعالى مادحا عباده: "وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاما" (الفرقان: 68) ، وقال تعالى: "وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً" (النساء: 93).
تقدم أن الله أخبر أنه لا يصدر قتل المؤمن من المؤمن ، وأن القتل من الكفر العملي ، وذكر هنا وعيد القاتل عمدا وعيدا ترجف له القلوب ، وتتصدع له الأفئدة ، وتنزعج منه أولو العقول ، فلم يرد في أنواع الكبائر أعظم من هذا الوعيد، بل ولا مثله، ألا وهو الإخبار بأن جزاءه جهنم، أي فهذا الذنب العظيم قد انتهض وحده أن يجازى صاحبه بجهنم بما فيها من العذاب العظيم  والخزي المهين ، وسخط الجبار، وفوات الفوز والفلاح ، وحصول الخيبة والخسارة ، فعياذا بالله من كل سبب يبعد عن رحمته.
والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جدا، قال رسول الله: "أول ما يقضي بين الناس يوم القيامة في الدماء " (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، وقال: "لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم"، رواه النسائي والترمذي و(صححه الألباني في "صحيح الجامع" 9208)، وقال: "لو أجمع أهل السماوات والأرض علي قتل رجل مسلم لأكبهم الله في النار".
وفي أعظم موقف زمانا ومكانا في حجة الوداع خطب النبي فقال في خطبته: ( أي شهر هذا؟ فقال الصحابة : الله ورسوله أعلم ، فقال : أليس ذا الحجة؟ فقالوا : بلى، ثم قال : فأي بلد هذا؟ قالوا : الله ورسوله لأعلم ، فقال: أليس البلدة "أي الحرام"؟ قالوا : بلي ، ثم قال : فأي يوم هذا؟ فقالوا : الله ورسوله أعلم ، فقال : أليس يوم النحر؟ قالوا : بلي ، ثم قال : فإن دماءكم ، وأعراضكم ، عليكم حرام كحرمة يومكم هذا ، في بلدكم هذا ، في شهركم هذا ) "صحيح مسلم".
2 – مراعاة الأحكام الشرعية في باب الجهاد:
من أعظم الأسباب التي جعلتنا نرفض دعوات العنف والمواجهة ليس في هذه الفترة فحسب، بل عبر تاريخ الدعوة المباركة؛ هو فقدان القدرة وغيرها من الشروط ، فالجهاد وإن كان ذروة سنام الإسلام وفريضة عظيمة من فرائضه، إلا أنه مشروط بالقدرة كغيره من التكاليف الشرعية ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ( فإن مدار الشريعة على قوله تعالي "فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ"، المفسر لقوله تعالي "اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ"، وعلي قوله "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم") أخرجاه في "الصحيحين".
وعلي أن الواجب تحصيل المصالح وتكميلها ، وتعطيل المفاسد وتقليلها ، فإذا تعارضت كان تحصيلها أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما ، ودفع أعظم المفسدتين مع احتمال أدناهما هو المشروع ) ا.هـ "مجموع الفتاوى"،ج28 (ص189:158).
فالجهاد وسيلة من وسائل إعزاز دين الله تعالي ونصرته وإعلاء كلمته في الأرض ، فليس غاية في ذاته ، فما شرع إزهاق الأرواح فيه وبذل المهج إلا من أجل عز الإسلام والمسلمين ، فإذا كان سيترتب عليه عكس ذلك مُنع منه ، ومعلوم أن القتال حال الاستضعاف وعدم القدرة لن يترتب عليه إلا مزيدا من التنكيل ، وفوات المصالح ، وضياع الدعوات ، وفتنة الناس عن دينهم ، إلي غير ذلك من المفاسد المُحققة ، وإن توهم البعض حصول بعض المصالح فهي مصالح موهومة؛ ولذا كان المشروع حال العجز وعدم القدرة هو الصبر واحتمال الأذى وعدم مقابلته بمثله ، كما رأينا ذلك في منهج الأنبياء جميعا ، ونص عليه علماء الأمة سلفا وخلفا، فليطالع كتاب الله من شاء ، سيجد أن منهجهم جميعا الصبر حال الاستضعاف ، وعدم القتال عند العجز ، فحين توعد فرعون قوم موسى بقوله: (سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ) (الأعراف: 127)؛ قال موسى لقومه: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (الأعراف: 128)، قالوا ( أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ? قَالَ عَسَى? رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ) (الاعراف: 129)، وحينما قتل فرعون السحرة بعدما آمنوا بموسى وكانوا بالآلاف ما رأينا من موسى سوى الصبر، فما هيَّج أتباعه لمواجهة غير متكافئة ثأرا لهؤلاء الذين قتلوا؛ لا لشيء إلا أنهم قالوا (ربُّنا الله)؛ ليُعَلِّمَهُ أن هذا سيزيد من عدد القتلى وتكثير المفاسد ليس من منهج الأنبياء. وقبله نوح لمَّا اشتد به أذى قومه وكان عدد من آمن به قليلا لا قبل لهم بمواجهةٍ، فما كان منه إلا أن توجَّه إلى ربِّه داعيا (أنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) (القمر: 10) . وعلى ذات الدرب مضى نبينا يمر على ياسر وسمية وهما يعذبان حتى الموت ، فما أمر أصحابه بمواجهة وهم مستضعفون ، بل قال : (صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة)(رواه البيهقي في "شعب الإيمان، وحسنه شيخنا الألباني")؛ حيث إن المرحلة مرحلة كف الأيدي ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة كما قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ? وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى? أَجَلٍ قَرِيبٍ ? قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى? وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ) (النسا: 77)؛ وما ذاك إلا لقلة العدد والعدة ، وعظيم المفاسد التي ستترتب على القتال .
يقول صاحب تفسير "الكريم المنان" العلامة السعدي رحمه الله: ( كان المسلمون – إذ كانوا بمكة – مأمورين بالصلاة والزكاة ، أي : مواساة الفقراء ، لا الزكاة المعروفة ذات النصب والشروط ، فإنها لم تفرض إلا بالمدينة ، ولم يؤمروا بجهاد الأعداء ، لعدة فوائد : 
منها : أن من حكمة الباري تعالي أنه يُشَرِّعُ لعباده الشرائع على وجه لا يَشُقُّ عليهم ، ويبدأ بالأهم فالأهم ، والأسهل فالأسهل . 

ومنها : أنه لو فرض عليهم القتال مع قلة عددهم وعُدَدِهم ، وكثرة أعدائهم؛ لأدَّى ذلك إلى اضمحلال الإسلام ، فروعي جانب المصلحة العظمى على ما دونها ، ولغير ذلك من الحكم .
وكان بعض المؤمنين يودون أن لو فُرض علهم القتال في تلك الحال ، غير اللائق فيها ذلك ، وإنما اللائق فيها القيام بما أُمِرُوا به في ذلك الوقت من التوحيد والصلاة والزكاة ونحو ذلك ، كما قال تعالى: "وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً"، فلما هاجروا إلى المدينة ، وقوي الإسلام ، كُتب عليهم القتال في وقته المناسب لذلك ، فقال فريق من الذين يستعجلون القتال قبل ذلك ، خوفا من الناس وضعفا وخورا: "رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ"؟ وفي هذا تضجرهم واعتراضهم على الله ، وكان الذي ينبغي لهم ضد هذه الحال ، التسليم لأمر الله ، والصبر على أوامره ، فعكسوا الأمر المطلوب منهم ، فقالوا : "لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى? أَجَلٍ قَرِيبٍ" أي : هلَّا أخرت فرض القتال مدة متأخرة عن الوقت الحاضر ، وهذه الحال كثيرا ما تُعرض لمن هو غير رزين واستعجل في الأمور قبل وقتها ، فالغالب عليه أنه لا يصبر عليها وقت حلولها ، ولا ينوء بحملها ، بل يكون قليل الصبر ...) ا.هـ 

فليت شعري ماذا سيقول لله أولئك الذين يدفعون الناس رجالا ونساء، بل وأطفالا إلى أتون مواجهة غير متكافئة؟!
ولاعتبار القدرة والعجز كان تشريع الجهاد على مراحل :
• المرحلة الأولى : 
مرحلة الكف عن المشركين والإعراض عنهم والصبر على أذاهم، مع الاستمرار في دعوتهم إلى دين الحق ، وقد دلت على ذلك كثير من الآيات المكية ، منها قوله تعالى: ( قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ ?للَّهِ...) (الجاثية: 14) ، وقال تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ) (النساء: 77) ، وقال رسول الله لأصحابه في مكة: ( إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا ..) رواه النسائي والحاكم، وقال: على شرط البخاري ، ولما استأذنه أهل يثرب ليلة العقبة أن يميلوا على أهل منى فيقتلوهم قال : ( إني لم أومر بهذا ) أخرجه أحمد والطيالسي .
• المرحلة الثانية : 
إباحة القتال من غير فرض في المدينة ، قال تعالى: ? إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)? (الحج: 38 – 40). 
• المرحلة الثالثة :
فرض القتال على المسلمين لمن يقاتلهم فقط قال تعالى: ?فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّواْ إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُواْ فِيهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّواْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا (91) ? (النساء: 90، 91).


• المرحلة الرابعة :
فرض القتال مطلقا ، قال تعالى: ( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُم فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ? فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ? إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (التوبة:5).
وهنا تثور شبهتان :
- إحداهما : يقول أصحابها ما دمتم تقولون بالمرحلة في الجهاد ، يلزمكم أن تقولوا بذلك أيضا في الخمر؛ حيث تدرج الشرع في تحريمها ، فمرت بمراحل كما هو معلوم.
- الثانية : يقول أصحابها إن المرحلة الأخيرة نسخت كل ما سبقها؛ لذلك قال بعض السلف إن آية السيف نسخت كل آيات الصبر والموادعة .
- ويجاب عن الأولى : بأن قياس الأسر الواجب تركه ( المحرم ) على الواجب فعله.
( الواجب ) قياس مع الفارق ، حيث إن الواجب تركه ( المحرم ) في مقدور كل المكلفين لا يباح لأحد فعله إلا عند الضرورة في إطار قاعدتي ( الضرورات تبيح المحذورات ، والضرورة تقدر بقدرها )؛ بخلاف الأمر المطلوب فعله على سبيل الحتم ( الواجب ) فهو مشروط بالقدرة ويسقط عند العجز ( الواجبات تسقط بالأعذار )، ودليل ذلك قوله عليه السلام: (ما أمرتكم فأتوا منه ما استطعتم ، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه ) (رواه البخاري ومسلم)، فلم يقل: ( ما نهيتكم عنه فأتوا منه ما استطعتم )، بل أمر باجتنابه مطلقاً ، بخلاف الأمر وهذا بين لا خفاء فيه .
- والشبهة الثانية : يجاب عليها من وجوه :
- أولها : أن النسخ في عرف السلف لم يكن محصورا في الرفع التام للخطاب السابق كما هو معلوم في مصطلحات المتأخرين ، بل كانوا يقصدون به التخصيص والتقييد أيضا، كما ذكر ذلك غير واحد من أهل العلم ( كشيخ الإسلام ابن تيمية ، والشنقيطي في "المذكرة" وغيرهما ) .
- ثانيا : أن العلماء قد اختلفوا في ذلك فمنهم من قال ليس في هذه المراحل، أي أن العمل بها ممتد ويعمل بكل مرحلة في الواقع المشابه لها ( الزركشي ).
- ثالثا : أن حقيقة الخلاف بين الزركشي وعلماء السلف هو في مسمي النسخ لا في العمل بمراحل الجهاد ، وإلا فالسلف لا يكلِّفون المُستضعف من المسلمين الذي حاله مشابهة لحال الرسول في مكة بالقتال؛ إذ الوجوب مشروط بالقدرة ، وكيف يُكلَّف المسلم فوق طاقته وقد أجاز كثير من الفقهاء للمسلمين دفع مال لمصالحة الكفار عند الضرورة ، وإنما يطالب المسلمون بالسعي الجاد للوصول إلى القوة التي تمكنهم من جهاد عدوهم ونصرة دينهم ، وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية (وهو من القائلين بالنسخ) يوضِّح أن المُستضعف يعمل بآيات العفو والصفح وعدم الأذى فيقول رحمه الله ما نصه: ( وصارت تلك الآيات في حق كل مؤمن مُستضعف لا يمكنه نصر الله ورسوله بيده ولا بلسانه فينتصر بما يقدر عليه من القلب ونحوه ، وصارت آية الصَّغَار على المعاهدين في حق كل مؤمن قوي على نصر الله ورسوله بيده أو لسانه ، وبهذه الآية ونحوها كان المسلمون يعملون في آخر عمر رسول الله وعلى عهد خلفائه الراشدين، وكذلك هو إلي قيام الساعة لا تزال طائفة من هذه الأمة قائمين على الحق ينصرون الله ورسوله النصر التام .
فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مُستضعف أو في وقت هو فيها مُستضعف؛ فليعمل بآية الصبر والصفح والعفو عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين ، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يُعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) ا.هـ.
وليس معنى كلامنا بعدم القتال وقت الاستضعاف ترك الجهاد بالكلية كما يتصور من لا علم له بهدي النبي في الجهاد ، فقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في حديثه عن هدي النبي في الجهاد ، أن الجهاد ثلاثة عشر مرتبة، وذلك باختصار من كلامه :
أ‌- جهاد النفس أربع مراتب :
- أحدها : أن يجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق الذي لا سعادة لها في معاشها ومعادها إلا به، ومتى فاتها علمه شقيت في الدارين .
- الثانية : أن يجاهدها على العمل به بعد علمه ، وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها .
- الثالثة : أن يجاهدها على الدعوة إليه وتعليم من لا يعلمه ، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات ولا ينفعه علمه .
- الرابعة : أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله وأذى الخلق .
• ثم ذكر جهاد الشيطان وله مرتبتان هما :
- الأولى : دفع الشبهات .
- الثانية : دفع الشهوات .
• ثم جهاد الكفار والمنافقين أربع مراتب : 
1- بالقلب .
2- واللسان.
3- والمال.
4- والنفس.
وجهاد المنافقين أخص باللسان ، وجهاد الكفار أخص باليد .
• ثم جهاد أرباب الظلم والبدع والمنكرات وهو على ثلاثة مراتب : 
- الأولى : باليد إذا قدر.
- الثانية : فإن عجز انتقل إلى اللسان. 
- الثالثة : إن عجز جاهد بقلبه . ا.هـ باختصار.
ومن ثم تعلم خطأ من حصر الجهاد في القتال ، وإن كان هو المقصود عند إطلاق الآيات والأحاديث ، لكنه مشروط بشروط ومقيد بضوابط أتت بها أيضا أدلة القرآن والسنة ، لكن عند العجز عنه يكون الانشغال بالمراتب الأخرى كمراتب جهاد النفس والشيطان والمنافقين بالحجة واللسان؛ فالمطلوب تحديد ما يلائم الوقت وترتيب أولويات العمل الإسلامي حسب كل مرحلة ، فتربية النفوس وإيجاد الطائفة المؤمنة القادرة على تحمل الأعباء والقيام بواجبات الإسلام ، ومنها الجهاد وهو أول ما قام به النبي في دعوته .
قال ابن القيم : (ولما كان جهاد أعداء الله في الخارج فرعا على جهاد العبد نفسه في ذات الله، كما قال النبي: " المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله ، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه "؛ كان جهاد النفس مقدما على جهاد العدو في الخارج وأصلا له ، فإنه ما لم يجاهد نفسه أولا لتفعل ما أُمرت به وتترك ما نُهيت عنه ويحاربها في الله؛ لم يمكنه جهاد عدوه في الخارج) . ا.هـ "زاد المعاد". 
وليس المقصود من هذا تعطيل الجهاد بمعنى القتال إذا تعين بزعم تربية النفس وجهادها ، أو اشتراط العدالة في المجاهدين حتى يُجاب عنه باتفاق العلماء على وجوب القتال على الفسقة والاستعانة بهم إجماعا كما يقول البعض ، بل المقصود بيان حقيقة كونية وسنة شرعية لا يمكن أن يقوم الجهاد إلا بها، وقد سار عليها الأنبياء وأصحابهم ، فلا بد لنا ونحن نحدد للصحوة أولوياتها وعملها في واقعنا المعاصر أن نسير على منهجهم، ولا يغيب عنا أن جيوش الصحابة والتابعين لم يكن أكثرهم حديثي الإسلام أو من الفساق والمنافقين حاشاهم من ذلك ، بل هم بحمد الله أكمل الأمة إيمانا وأكثرهم علما وأحسنهم عملا؛ وبهذا نصرهم الله .
قال البخاري في "صحيحه": باب عمل صالح قبل القتال ، وقال أبو الدرداء : (إنما تقاتلون بأعمالكم).
ولا شك أن حالة الضرورة غير حالة الاختيار ، وحالة إحياء الأمة من رقدتها الطويلة وبعثها من تحت سلطان عدوها غير حالة الدفع عن الأمة القائمة إذا نزل بها عدوها إذ لا يستجيب لداعي الجهاد ، بل لكل دواعي طاعة الله في حالة الرقاد إلا من استجاب للإيمان والالتزام أصلا، ولا يقوم الحق ومنه الجهاد إلا بقيام الطائفة المؤمنة أولا ، فإذا قلنا للناس الآن إن أولى الأولويات في الوقت الحاضر هو إعداد العدة العسكرية مع أننا نعلم مقدار قوة المؤمنين المتواضعة على ذلك، ونعلم كذلك بُعد شباب الأمة ورجالها عن الالتزام بدينهم أصلا، ونعلم ما يترتب على ذلك من مفاسد ربما تودي بالدعوة من أصلها .
فإذا قلنا إن هذه المواجهة المسلحة بمختلف صورها هي أولى الفرائض وأوجب الواجبات، وإن من لا يقوم به خائن لأمته ودينه؛ كان ذلك خلطا في الموازين ، وقلبا لسنن الأنبياء الشرعية ، ومخالفة لسنن الله الكونية ، وإهدارا للطاقات ، وإلقاء لشباب الصحوة في الهاوية بلا مصلحة ولا فائدة ، وقد قال كما في "صحيح مسلم": (عن الحَسَن أَنَّ عَائِذَ بْنَ عَمْرٍو وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, دَخَلَ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ, فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ شَرَّ الرِّعَاءِ الْحُطَمَةُ, فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ, فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ فَإِنَّمَا أَنْتَ مِنْ نُخَالَةِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: وَهَلْ كَانَتْ لَهُمْ نُخَالَةٌ؟ إِنَّمَا كَانَت النُّخَالَةُ بَعْدَهُمْ, وَفِي غَيْرِهِمْ).
• ثانيا : الاعتبارات الواقعية : 
قد يعترض معترض بأن كل ما ذكرت إنما هو في حال الاستضعاف والعجز وعدم القدرة ، لكننا لسنا كذلك فقد وصلنا إلى سدة الحكم بل قمة الهرم ( رئاسة الجمهورية). 
نقول هذه المعضلة التي غفل كثير من الإسلاميين عن حلها ، ولم يكلِّفوا أنفسهم بالوقوف ولو لوقت قليل أمامها في ساعة مصارحة مع النفس للإجابة عن سؤال مفاده "ما المبرر لترك الحكم بالشريعة وعدم نصرة كثير من المظلومين، وعدم الإنكار على كثير من المنحرفين والمفسدين ولو باللسان، بل مداهنتهم أحيانا؟!" ( كالاعتذار لإحدى الممثلات )! 
ألم يكن الجميع بدءا من رئيس الجمهورية وحتى أصغر فرد في الجماعة يبررون ذلك بالعجز وعدم القدرة، حيث إن أزمَّة القوى ليست في أيديهم .
وإذا كان هذا هو الحال وهم في سدة الحكم ، فهل يُعقل أنه لما سُلِبَ منهم أتتهم القوة وزال العجز ، وخرجوا عن حد الاستضعاف؟! ( إنَّ هذا لشيء عجاب ).
إن الفقه في الواقع أمر في غاية الأهمية؛ حيث إن المعرفة الدقيقة بالواقع تمكن من إنزال الحكم عليه بصورة صحيحة؛ ولذا كانت صحة الفهم متوقفة على شيئين :
1- الفقه في الواقع .
2- معرفة حكم الله فيه.
وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم : ( صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده ، بل ما أعطي عبد عطاء بعد الإسلام أفضل ولا أجل منهما ، بل هما ساقا الإسلام ، وقيامه عليهما ، وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم، وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم ، ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت أفهامهم وقصودهم ، وهم أهل الصراط المستقيم الذين أمرنا أن نسأل الله أن يهدينا صراطهم في كل صلاة ، وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد ، يميز به بين الصحيح والفاسد ، والحق والباطل ، والهدى والضلال ، والغي والرشاد ، ويمده حسن القصد ، وتحري الحق ، وتقوى الرب في السر والعلانية ، ويقطع مادته اتباع الهوى ، وإيثار الدنيا ، وطلب محمدة الخلق ، وترك التقوى . 
التمكن بنوعين من الفهم 
ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم : 
أحدهما : فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات؛ حتى يحيط به علما . 
والنوع الثاني : فهم الواجب في الواقع ، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان قوله في هذا الواقع ، ثم يطبق أحدهما على الآخر ; فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرا ) ا.هـ "إعلام الموقعين".
فهل تُلام الدعوة المباركة لأنها راعت الواقع ولم تغالط نفسها وتُحلِّق في الأوهام ، أم أن الحق الذي لا مرية فيه أنها سلكت المسلك الصحيح في ذلك والتزمت طرائق العلماء كما ذكرنا في كلام ابن القيم رحمه الله؟! 
ثالثا : الاعتبارات التاريخية :
أما ثالث الاعتبارات التي جعلتنا نرفض خطاب العنف والصدام ونُحَذِّر منه، هو الاعتبار بالتاريخ ونعني هنا "تاريخ الصحوة"؛ حيث إن كل تجارب الصدام قد باءت بالفشل وجلبت المفاسد العظيمة من سفك للدماء وإزهاق للأرواح بلا طائل ، وتعطيل للدعوات ، وفتنة للعباد ، وتشويه للإسلاميين ، كما رأينا في الستينات والسبعينات ، وأحداث 81 ، وأحداث التسعينات؛ هذا في مصر ، أما عن أحداث الجزائر فَحَدِّث ولا حرج!
فهل يُعقل بعد كل هذا أن نُعيد نفس التجارب ، ونقع في نفس الفخ؟! 
فلو استجبنا إلى دعوات الحشود والمواجهة لتكرر سيناريو الجزائر بتمامه ، ولزادت الدماء ، ولضاع كل ما في أيدينا ، وللفظ الشعب الإسلاميين جميعا ورماهم بـ"الإرهاب" .
وقد رأينا ما حدث في عهد مرسي حين عَيَّن محافظا للأقصر من الجماعة الإسلامية؛ فثارت الدنيا ولم تقعد ، ورفضه أهل الأقصر ، ولم يستطيع أحد أن يُمَكِّنه من عمله حتى أعلن استقالته؛ كل ذلك لأنهم لم ينسوا لهم تاريخهم الدموي ، وعملياتهم السابقة ، رغم أنهم أعلنوا رجوعهم وخطأهم واعتذارهم كما في مراجعاتهم. ( فالعاقل من اتعظ بغيره )!