قطر وسن الرشد

  • 203

ليست مبالغة القول: إن الدول فى نموها وتطورها تشبه مراحل النمو والتطور التى يمر بها الإنسان فى حياته، فلكل مرحلة من هذه المراحل سمات وقسمات خاصة بها، فهناك دول ما زالت فى طور النشأة، وأخرى فى طور الشباب باندفاعاته وتهوره، وثالثة فى طور الرشد، ورابعة فى طور الحكمة، وخامسة فى طور الاضمحلال والتدهور والانهيار.

هذه القاعدة لا نعنى بها تقسيم دول العالم بقدر ما نعنى بها تحديد وضع بعض الدول فى النظام الدولى، وتحديدًا دولة قطر التى لم تصل بعد إلى سن الرشد، بما يعنى أنها صحيح تجاوزت مرحلة النشأة مع حصولها على الاستقلال فى سبعينيات القرن المنصرم، إلا أنه من الصحيح أنها ما زالت فى طور الشباب الذى يعنى الاندفاع والتهور وعدم القدرة على تقدير العواقب والنتائج المترتبة على سياساتها وتوجهاتها، بل أكثر من ذلك نجد هناك تخبطا فى كثير من هذه السياسات.

يدلل على ذلك ما جرى مؤخرًا بصدور بيان وزارة الخارجية القطرية والذى مثّل تدخلاً مرفوضًا فى الشأن المصري، فحينما يأتى فى هذا البيان ما نصه أن:"ما جرى ويجري في مصر ليقدم الدليل تلو الدليل على أن طريق المواجهة والخيار الأمني والتجييش لا تؤدي إلى الاستقرار.

وأن قرار تحويل حركات سياسية شعبية إلى منظمات إرهابية، وتحويل التظاهر إلى عمل إرهابي لم يجد نفعًا في وقف المظاهرات السلمية، بل كان فقط مقدمة لسياسة تكثيف إطلاق النار على المتظاهرين بهدف القتل"، فلا شك أن ما جاء فى هذا البيان لا يختلف عليه اثنان أنه تدخل سافر فى الشئون الداخلية المصرية،.

وحسنًا ما فعلته وزارة الخارجية المصرية حينما لم تكتف بمجرد إصدار بيان رفض، وإنما سارعت باستدعاء السفير القطرى فى القاهرة وأبلغته رفضها لمثل هذه التصريحات والبيانات، ومحذرة فى الوقت ذاته أي دولة أو طرف خارجي يشرع أو يقدم على ذلك، بتحمله مسئولية ما يترتب عليه من تداعيات، وهو ما يذكرنا بالموقف المصرى من تركيا بسبب تدخلات رئيس وزرائها، والقرار بطرد السفير التركى وتخفيض مستوى التمثيل الدبلوماسى بين البلدين إلى مستوى القائم بالأعمال.

والحقيقة أن هذه الحادثة كاشفة عن أمرين مهمين وجب تسجيلهما بشأن الدور القطرى فى المنطقة خلال الفترة القادمة، وهما: الأول- أن دولة قطر وقيادتها ما زالت بالفعل لم تبلغ سن الرشد فى سياستها وتوجهاتها وعلاقاتها الخارجية على الأقل فى محطيها العربى والإقليمى، وهو ما اتضح فى رد فعل السفير القطرى حينما استدعته الخارجية المصرية، فجاء على لسانه:"أن بلاده أيدت ثورة 25 يناير، ومن بعدها ثورة 30 يونيو، وأنها سارعت بإصدار بيان يؤكد  دعم إرادة الشعب المصري ويشيد بدور القوات المسلحة، فضلا عن توجيه أمير قطر رسالة تهنئة للسيد رئيس الجمهورية المستشار عدلي منصور فور حلفه اليمين الدستورية"، فأيهما يصدق الشعب المصرى بيان وزارة الخارجية القطرية أم تصريح سفيرها لدى القاهرة؟.

وهل يمكن فهم التصريح الأخير فى ضوء تراجع قطر عن بيانها حينما رأت رد فعل قوى من الجانب المصرى؟ أم يمكن اعتباره نوعًا من المراوغة السياسية التى لا تجدى فى مثل هذه المواقف المصيرية التى تحتاج الى وضوح فى القرارات؟ وهو ما يعنى أن على الدول العربية أن تتحسب للمواقف القطرية القادمة وتوجهاتها خاصة من يتابع علاقاتها مع الولايات المتحدة (قاعدة العُديد) والكيان الصهيونى من جانب، ودورها فى مجلس التعاون الخليجى من جانب آخر.

الثانى- من المهم لدى القيادة القطرية أن تدرك بأن نثر المال رشوة لا سياسة، فى حين أن حجم المخاطر والتهديدات التى تواجهها الأمة العربية فى تلك المرحلة العصيبة من تاريخها تحتاج إلى رؤية سياسية حصيفة وفهم دقيق لمقتضيات اللحظة ومخاطرها.

وبعيدًا عن نظرية المؤامرة التى تقدم تفسيرًا سهلاً للأحداث، إلا أن التاريخ برمته لا يخلو من التآمر، بما يعنى أنه لابد أن تدرك الدول العربية قاطبة أن هناك مخططات تُرسم، ومؤامرات تُحاك، وأطماع تتزايد فى ثروات المنطقة وقدراتها، ولعل ما جرى مؤخرًا بشأن الاتفاق النووى الإيرانى الأمريكى المفاجئ للجميع وخاصة الدول الخليجية يقدم دليلا على صحة هذا القول، وهو ما يعنى أيضًا أن ثمة مسئولية تتحمل الدول الفاعلة فى النظام الإقليمى العربى– وإن كان هناك شك فى استمرار وجوده- وفى مقدمتها مصر، فمن غير المنطقى أن تغرق مصر وبشكل خطير فى مستنقع فتنة وانقسام وتناحر داخلى، ثم يقف العالم العربى متفرجًا أو منتظرًا لما ستسفر عنه الأحداث أو يأتى موقف إحدى دوله متخاذلاً إن لم يكن متواطئًا كما هو الحال فى الموقف القطرى.

وإنما المطلوب أن يكون هناك موقف عربى موحد يُدرك المخاطر ويُسارع إلى المشاركة فى حماية اللحمة العربية ويحفظ الكيانات الوطنية واستقلاليتها وتماسكها دون التدخل فى شئونها الداخلية. ولعل الموقف السعودى والإماراتى والكويتى وأيضًا البحرينى قدم نماذج صحيحة لمّا يجب أن تكون عليه سياسات الدول التى بلغت سن الرشد بل الحكمة واستطاعت أن تدرك المخاطر وتحدد التهديدات وتواجه المخططات حينما اتخذت موقفًا مؤيدًا للإرادة الشعبية المصرية، وهو ما يطرح التساؤل إذا كان صحيحًا أن قطر صادقة في تأييد الثورتين، فكان عليها أن تتخذ خطوات ملموسة وبناءة لإعادة العلاقات بين البلدين إلى سياقها الطبيعي بدلاً من التدخل المرفوض في الشأن المصرى على حد وصف بيان وزارة الخارجية المصرية.

 ملخص القول إن الخطر المحدق بالعرب والمسلمين اليوم لا يفرق بين هذه الدولة أو تلك، بل تقع المنطقة برمتها فى القلب منه بما يهدد سيادة كل دولة واستقلالها الوطنى، بل يهدد الهوية الدينية والثقافية والحضارية والعربية والإسلامية فى الصميم. ولذلك، لا يجوز عقلاً وحكمة ومصلحة أن تُترك مصر وحدها فى ساحة مواجهة الإرهاب داخليًا والمؤمرات خارجيًا.