رعاية الأمانة فى الأهل والوطن والديانة

  • 209

يقول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)} [الأنفال: 27، 28].

1. اعلم رحمك الله، أنه من أعظم أسباب اختلاف بنى آدم من المؤمنين وغيرهم ، ادّعاء طائفةٍ العلم القطعي، والظفر بالحق المطلق دون الغير .وذلك أن المدارك التي يُحصّل بها الشخص علما يُقطع به، ويكون ضروريا فى حقه، ثلاثة:

إمّا من جهة القياس والنظر، أو من جهة السماع والخبر، أو من جهة الاحساس والبصر، ولا تكون واحدة من الطائفين كاذبة بل صادقة، ولكن أُدْخِل مع الحق ما ليس منه لعدم اتباع سُبُل، الأولين والعلماء الراسخين، في الفهم والاستدلال. فالاجتهاد السائغ لا يبلغ مبلغ الفتنة والفرقة، إلا مع البغي لا لمجرد الاجتهاد، بل لابد من نوع بغيٍ، كما قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا} [آل عمران: 19]، ولذلك كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ: «اللهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ». [أخرجه مسلم: 770]، والله عزوجل لما شرع لنا الدين، إنما أراد بذلك أن تنظم حركة الإنسان فى الحياة، على سبيل قويم يوصل صاحبه إلى تحصيل المنافع له وللناس، وتقليل المفاسد فى البر والبحر.
وهو تبارك وتعالى غنيٌ عن تعذيب العبد نفسه، وما تعبدنا بالحَرَجِ فى أمرٍ من الأمور قطُّ، وإنما قضى وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وأنزل - رأفةُ بعباده- { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، والوسع: هو ما تسعه النفس، ولا تعجز عنه .والجرح: هو الضيق، وشريعة الله كلها سمحة، فقال رسولنا :" بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ ".  والمشقة تجلب التيسير، والقدرة شرط في التكليف، ولا مأمور إلا بمقدور، وما كلفنا الله إلا بما في وسعنا، هذا كله من آثار اسم الله (الرؤوف)، الذي يغفر، ويعفو، ويمنّ، ويعطي من غير استحقاق من العبد.

ومن ذلك أنه يتجاوز لعباده عن الخطأ والنسيان، وما استكرِهوا عليه. وجعل الرأفة سجيّة فى رسوله الذي أرسله بهذا الشرع ، ومُدِحَ بأنه رؤوفٌ ،حريصٌ على أمته شفيقٌ بهم يشق عليه ما يؤذيهم ويجهدهم وهو بهم رحيمٌ ، قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]

2. إذا وضح لك ذلك واستبان، فانظر ما يلي تقرأ عجبا :
قال شيخ الاسلام فى كتاب "الاستقامة" ص34: (أمّا إذا وقع بغيٌ ابتداءً بغير قتالٍ مثل أخذ مال، أومثل رئاسة بظلمٍ، فلم يأذن الله فى اقتتال طائفتين من المؤمنين على مجرد ذلك، لأن الفساد في الاقتتال فى مجرد رئاسة، أو أخذ مال فيه نوع ظلم .لهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتال الائمة، إذا كان فيهم ظلم، لأن قتالهم فيه فساد أعظم من  فساد ظلمهم ) أ.هـ

فانظر -يا رعاك الله- إلى ذلك النص الواضح الجلي من شيخ الإسلام على حكم مسالة، أشبه ما تكون بواقعنا اليوم.
 
3. الأسباب التي تنال المصالح وتدرء بها المفاسد، شرطها أن تكون ديناً عند الأولين؛ لتستقيم، وينتفع بها التابعين:
وجماع ذلك:

أن الاسباب إما أن تكون مقدورة، أو غير مقدورة؛ فغير المقدورة ليس  فيه إلا الدعاء والتوكل، والمقدورة إما أن يكون فساده راحجا، أو لا يكون، فإن كان فساده راجحا، نهى عنه، وإن لم يكن فساده راجحا نُهى عنه أيضا، كما يُنهى عن إضاعة المال. وأما السبب المقدور النافع منفعة راجحة، فهو الذي يؤمر به، ويندب إليه.

إذا استقام لك فهم ما سبق، فاعلم أنه ينبغي علينا أن نبصر مواقع أقدامنا، ونحكم قواعد الشرع، وحسابات المصالح والمفاسد الشرعية، لا العواطف، والأهواء، والعناد . فنكون كمن أراد أن يدخن على عين خصمه فاحرق نفسه، يالله، ما أحمقه من سفيهٍ، وما أغبنها من نظرةٍ طائشةٍ.
 
والشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فهي تحصّل  أعظم المصحلتين بفوات أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما، فأين مراعاة هذه القواعد مما نراه اليوم، من اجتراء على الدماء، وتعرض للقتل في الطرقات، مع غلبة الظن بفوات النفس، في سبيل رئاسة، أو سلطة، وقد نقلنا لك عما قريب كلاما لشيخ الإسلام ابن تيمية فصلا فى ذلك .

4. حق على من علم ذلك واستبان له الطريق أن يلزمه؛ مستمسكا بغرس النبى صلى الله عليه وسلم، فى العلم، والعمل، والسلوك، والدعوة إلى الله عز وجل؛ مستحصباً تجريد النية لله عز وجل، وتجريد المتابعة للنبى محمد صلي الله عليه وسلم، فحِلَقُ الجنة لا تُطْرَقُ إلا بيده، ولا تفتح أبوابها إلا له، وليلزم المحبرة حتى المقبرة .

بتلك الأصول تعود الحركة الإسلامية إلى قواعدها الأولى؛ من توحيد، واتباع، وتزكية تربى شبابها على ذلك، وتستنقذهم مرةً اخرى من حومة الدم، والفرقة، والتخوين، والسب والتلاعن. فينشأ – ولو بعد حين – جيلٌ من أصلابنا يحمل الراية بحقها، ويأخذ الكتاب بقوة، فيفتح الله على يديه ما شاء من بيت مدرٍ ووبرٍ؛ ولننظر إلى المصالح الشريعة مجتمعةً، ولنراجع فقه الأولويات، وإعمال الأدلة فى كل القضايا، مع إنزالها على الواقع دون الحرص على قضية معينة، فتطغى على باقي التكاليف، فلربما تضيع فرائض، وقربات؛ للحرص على شيءٍ وإغفال ما سواه مما كلفنا به رب العالمين، ودائما نعلم علم اليقين أن الحرص على الشيء يعميك عن عيوبه، ولنعدّ جوابا للسؤال أمام الله عز وجل عما استرعانا عليه، والله يعلم السر وأخفى، وعند الله تجتمع الخصوم ، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 30].

عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ قَالَ: قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: «تَعَلَّمُوا الْإِسْلَامَ؛ فَإِذَا تَعَلَّمْتُمُوهُ فَلَا تَرْغَبُوا عَنْهُ , وَعَلَيْكُمْ بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ؛ فَإِنَّهُ الْإِسْلَامُ , وَلَا تُحَرِّفُوا الصِّرَاطَ شِمَالًا وَلَا يَمِينًا , وَعَلَيْكُمْ بِسُنَّةِ نَبِيِّكُمْ وَالَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْتُلُوا صَاحِبَهُمْ , وَمِنْ قَبْلِ أَنْ يَفْعَلُوا الَّذِي فَعَلُوا؛ فَإِنَّا قَدْ قَرَأْنَا الْقُرْآنَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقْتُلُوا صَاحِبَهُمْ , وَمِنْ قَبْلِ أَنْ يَفْعَلُوا الَّذِي فَعَلُوا بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً , وَإِيَّاكُمْ وَهَذِهِ الْأَهْوَاءَ الَّتِي تُلْقِي بَيْنَ النَّاسِ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ» . قَالَ: فَحَدَّثْتُ بِهِ الْحَسَنَ , فَقَالَ: صَدَقَ وَنَصَحَ. قَالَ: وَحَدَّثْتُ بِهِ حَفْصَةَ بِنْتَ سِيرِينَ , فَقَالَتْ: بِأَبِي وَأَهْلِي أَنْتَ حَدَّثْتَ بِهِذَا مُحَمَّدًا؟ فَقُلْتُ: لَا , قَالَتْ: حَدِّثْهُ بِهِ. [البدع لابن وضاح: 1/ 69].  

والحمد لله رب العالمين .