التضامن المجتمعي والثقافة المصرية

  • 169

واجه المصريون ربما للمرة الأولى منذ ما يزيد على قرن، موجة من البرد القارس فرضت حالة من الهدوء النسبي في الشارع المصري، فصحيح أن المظاهرات لم تتوقف كليةً حيث واجهت بعض المناطق تواجدًا محدودًا لأنصار الرئيس السابق ومؤيديه، إلا أنها لم تدم طويلاً كما هو معتاد في نهاية كل أسبوع، وربما كانت هذه إحدى حسنات الموجة الباردة.

إلا أن الحسنة الكبرى لهذه الموجة، هو كشفها عن الروح الوطنية العالية، التي تجلت في الدعوات المتعددة التي أطلقتها مؤسسات المجتمع المدني، وساندها الإعلام المصري من أجل تقديم المساعدات العينية (المتمثلة تحديدًا في توفير البطاطين) للأسر الفقيرة، تلك هي القيمة الأولى المعبرة عن التضامن المجتمعي، كونه سمة بارزة في الشخصية المصرية، التي شهدت تحولات عدة على مدار الأعوام الثلاثة الماضية، وربما قبلها بقليل، حيث غابت بعض مظاهر هذه السمة، وإن ظلت متجذرة في أعماقها، تظهر حينما تشتد الضروب وتتفاقم المشكلات، وتتعمق المخاطر، التي يواجها الشعب المصري.

فحالة التضامن المجتمعي التي عاشتها مصر في أيام الثورة الأولى على مدار الـ18 يومًا، كانت بمثابة لحظة عكست الطبيعة الحقيقية للشخصية المصرية، إلا أن المشكلات، والاختلافات، والتباينات في الرؤى، والمواقف، والأفكار، والانتماءات، أوجدت حالة في الانفصام بين عُرى جميع القوى، التي شاركت في نجاح هذه الثورة؛ لتبدأ مرحلة من الصراع المجتمعي، لم تهدأ حتى اليوم رغم ما ظهر من توافق مجتمعي فيما عاشته مصر في الثلاثين من يونيو 2013، حيث تجسدت مرة أخرى صورة من صور التضامن المجتمعي في مواجهة نظام حكم الإخوان، الذي حاول أن يعصف بجميع القوى السياسية، ويهيمن على كافة مؤسسات الدولة، وأجهزتها تحت دعاوى التطهير والتصحيح.

ولكن، سرعان ما عادت حالة الانفصام مرة أخرى إلى القوى السياسية التي شاركت في هذه الموجة الثورية، وهو ما برز في جلسات لجنة الخمسين لإعداد تعديلات الدستور، والتي أدرك أعضاءها في لحظاتها الأخيرة أن مصر كلها في لحظة فارقة، إما أن تتجاوز صعوباتها، أو تقع في خضم صراع داخلي يمهد لاحتراب أهلي، ليُسرع الجميع إلى إعلاء قيمة التضامن والتوافق؛ لتخرج الوثيقة الدستورية في موعدها بتعديلات حققت الحد الأدنى من التوافق، ولاقت قبولاً مجتمعيًا.

واليوم، يقف المجتمع المصري في غالبيته موقفًا ثابتًا في محاربة الإرهاب، الذي يحاول أن يعصف بمقدرات الوطن ومكتسباته، التي تحققت منذ ثورة الخامس والعشرين من يناير، ليُدخل الجميع في نفق مظلم من التهديدات والاعتداءات المباشرة، والتي تصل إلى حد الاغتيالات لبعض الرموز والشخصيات العامة، كما حدث مؤخرًا مع الدكتور ياسر برهامي نائب رئيس الدعوة السلفية، حينما قامت وزارة الداخلية بتخصيص حماية أمنية له عند قيامه بإلقاء بعض الخطب العامة في المساجد.

وبناء على ذلك، يصبح من الأهمية بمكان القول أن مصر تحتاج إلى مزيد من التضامن المجتمعي، بين مختلف أطياف الشعب وفئاته كشرط ضروري؛ لنجاحها في مواجهة أية تحديات تحيق بمستقبل البلاد، بدءًا من الاستفتاء على الدستور المزمع إجراؤه في الرابع والخامس عشر من يناير القادم، مرورًا بالاستعداد للانتخابات البرلمانية والرئاسية خلال نصف العام، وصولاً إلى محاربة الإرهاب والعنف بكل صوره وأشكاله، فما يجري في سيناء يتطلب دعم ومساندة للمؤسسة العسكرية، من جانب كافة أجهزة الدولة، ومؤسساتها، ومواطنيها؛ للوقوف في وجه ذلك الإرهاب الأسود، كما أن ما يجري في الشارع المصري من تظاهرات غير سلمية يسقط خلالها قتلى، وجرحى، يتطلب من الجميع رفض مثل هذه الممارسات، التي لا تحترم القانون، ولا سيادته، ولا أحكامه.

وفى الإطار ذاته، يظل ما تواجهه مختلف الجامعات المصرية من تظاهرات للطلبة، في حاجة إلى أن يفهم الأطراف كافة بأنه إذا كان من حق بعض الطلبة أن يتبنوا موقفًا سياسيًا معينًا، وأن يعبروا عن هذا الموقف بأية صورة من صور التعبير؛ شريطة أن تظل سلمية حتى نهايتها، فإنه من حق بقية الطلبة أن يتلقوا دروسهم ومحاضراتهم، وكذلك من حق الدولة وأجهزتها الأمنية أن تبسط سيطرتها على كل من يخالف أحكام القانون وقواعده، وإحالته الى القضاء، وذلك كله في الإطار الذي ينظمه القانون، ودون أية تجاوزات.

ملخص القول إن التضامن المجتمعي، وإن كان من أبرز سمات الشخصية المصرية، والتي تتجلى دائمًا في الأزمات والمحن، التي يواجها الوطن، فإن اللحظة الراهنة التي تقف فيها مصر عند مفترق طرق، تستوجب أن تبرز هذه السمة بين أبناء الوطن جميعًا، فنجد تضامنًا مجتمعيًا في مواجهة الإرهاب الأسود، وتضامنًا لبناء الاقتصاد الوطني، وتضامنًا في الخروج بالبلاد من عنق الزجاجة إلى رحابة البناء والتنمية؛ بإتمام خطوات خارطة الطريق، التي تم التوافق عليها في أوائل يوليو الماضي، استكمالاً لبناء الدولة العصرية التي يحلم بها الجميع، ووفاءً لشهدائنا الذين ضحوا بحياتهم من أجل ذلك الحلم.