المقدم مبروك وقانون حماية الشهود

  • 206

مثلت حادثة اغتيال المقدم محمد مبروك ضابط الأمن الوطنى نقطة تحول كبيرة فى مسار العملية السياسية برمتها، حيث فتحت الباب واسعًا لتغيرات جوهرية يجب أن ينتبه الجميع إليها، فقد سبق أن حذرنا من أن تدفعنا حالة الاستقطاب التى يعيشها المجتمع المصرى بسبب مواقف الأطراف السياسية كافة وخاصة تلك التى ترفض ما توافقت عليه الإرادة الشعبية فى الثلاثين من يونيو حيث تقدم رؤية عقيمة مازالت تنظر إلى الأحداث بمنظار تم تثبيته على ميقات التاسع والعشرين من يونيو فلم ير تغيرًا حدث، ولا تحولاً وقع، ولا تطورًا عاشته الدولة المصرية مع البدء فى تطبيق خريطة الطريق التى تم وضعها فى الثالث من يوليو الماضي.

ودون الدخول فى تقييمات لمواقف هذا الطرف أو ذاك، نجد أن ما تناولته الصحف والبرامج التليفزيونية بشأن حادثة اغتيال محمد مبروك ظل مركزًا على جانب واحد من جوانب القضية وهو جانب كيفية التعامل مع تلك الجماعات الإرهابية التى تمارس عنفها وإرهابها ضد المجتمع بأسره.
وعلى الرغم من أهمية هذا الجانب فإن ثمة جوانب أخرى تستوجب إلقاء الضوء عليها، ومن أهم تلك الجوانب قضية "حماية الشهود"، فلا شك أن الطفرة الحديثة في علم الإجرام، وما صاحب ذلك من تطور تكنولوجي في تنفيذ الخطط الإجرامية، أدى إلى إفلات كثير من الجناة من قبضة العدالة، وهو ما جعل من شهادة الشهود من أهم وسائل تحقيق العدالة إن لم تكن أهمها على الإطلاق، فهي بمثابة دليل حي ينطق بالحقيقة.

ولضمان نجاح هذه الوسيلة فى الكشف عن الجريمة والوصول إلى مرتكبها، وجب تسجيل ملاحظات ثلاث فى هذا الخصوص، وذلك على النحو التالى:

أولاً- العدالة والشهادة مفهومان مترابطان، فلا يمكن أن تكتمل منظومة العدالة بدون توفير مناخ آمن وحماية كاملة للشهود باعتبارهم مفتاح الحقيقة المنشودة في مختلف القضايا. بما يدفع الجناة إلى تهديد الشهود أو ترغيبهم بكافة الوسائل، وكذلك تعريضهم لكافة أنواع الضغط التي قد تؤدي بهم للامتناع عن أداء شهادتهم أمام القضاء. فصحيح أن كل مواطن فى المجتمع يتحمل واجب أخلاقى والتزام قانونى بأداء الشهادة والتبليغ عن الجرائم التى تصل إلى علمه، إلا أنه من الصحيح أيضًا أن أداء هذا الواجب أو الالتزام يتطلب التزامًا مقابلاً من جانب السلطات العامة بتوفير الضمانات والحماية له. ولذا، تنبه المُشرعون فى الآونة الأخيرة إلى ضرورة توفير الحماية القانونية اللازمة للشهود، بهدف عدم التأثير فيهم بمثل هذه الضغوط والتهديدات وكذلك تشجيعهم على أداء شهادتهم وبيان الحقيقة دون أن ينشأ عن ذلك تعرضهم أو أحد أفراد أسرهم أو المقربين لهم لأي خطر أو ضرر على الحياة كالقتل أو السلامة البدنية كالضرب أو الجرح أو غيرها من جرائم المساس بالسلامة الجسدية.

ثانيًا- من أجل تحقيق تلك المعادلة بين التزام المواطن بواجبه فى أداء الشهادة والتزام الدولة بحمايته، وجب الإسراع بإصدار تشريع يحقق ذلك، وهو ما يعرف بتشريع حماية الشهود، ذلك التشريع الذى يرى البعض أنه يأتى تنفيذًا للالتزام الدولى الذى يقع على عاتق الحكومة المصرية لمواجهة الفساد بمقتضى تصديقها على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التى وقعّت عليها في 2003 وصدّقت عليها في 2005، والتى تُلزم كل دولة طرف (مادة 25) اعتماد ما يلزم من تدابير تشريعية وغير تشريعية ضد استخدام القوة البدنية أو التهديد أو الترهيب أو الوعد بمزية للتحريض على الإدلاء بشهادة زور أو للتدخل في الإدلاء بالشهادة أو في تقديم الأدلة في إجراءات تتعلق بارتكاب جرائم تشملها الاتفاقية. كما تلزم كذلك كل دولة طرف (مادة32) على اتخاذ تدابير مناسبة وفقا لنظامها القانوني الداخلي، وضمن حدود إمكانياتها، لتوفير حماية فعّالة للشهود والخبراء الذين يُدلون بشهادة تتعلق بأفعال مجرمة وفقًا للاتفاقية، وكذلك لأقاربهم وسائر الأشخاص وثيقي الصلة بهم عند الاقتضاء، من أي انتقام أو ترهيب محتمل. إلا أن الحقيقة تؤكد أن اللحظة الراهنة بتعقيداتها وتشابكاتها وخطورتها على أمن البلاد واستقرارها، تفرض الحاجة إلى الإسراع لإصدار مثل هذا التشريع كواحد من أهم الآليات إن لم يكن أهمها على الإطلاق فى محاربة الفساد وكافة الجرائم والانتهاكات، لمّا يوفره من مناخ آمن يبث جوًا من الثقة تشجع المواطنين على الإبلاغ عن كافة أشكال الجرائم سواء أكانت جرائم فساد أم جرائم جنائية.

ثالثًا- يتذكر الجميع مشروع قانون حكومة الدكتور هشام قنديل عن حماية الشهود، ذلك المشروع الذى ناقشه مجلس الشورى الذى تم حله مؤخرا ووافق عليه من حيث المبدأ. وعلى الرغم من هذه الموافقة، فإن الواجب يقتضى القول إن ما تضمنه المشروع من مواد ظلت دون الحد المطلوب لحماية الشهود، فقد تجاهل المشروع فلسفة الحماية ذاتها بل أفرغ جزءًا كبيرًا من مضمونها، فعلى سبيل المثال تقوم فلسفة قوانين حماية الشهود على تحفيز الشهود للإدلاء بالشهادة. لكننا نجد أن هذا المشروع نص على السجن المشدد كعقوبة إذا ثبت كذب المشمول بالحماية. برغم المنطقية الشكلية فى هذا النص، فإنها ستلعب عمليًا دورًا مثبًطا للشهود ومانعًا لهم من الإدلاء بالشهادة. فالواقع أن الشهود في القضايا التي تتطلب حماية خاصة للشاهد يكونون في أغلب الأحيان غير مطلعين إلا على بعض المعلومات الناقصة أو المعارف غير المكتملة. ولذا فإن تهديدهم بالسجن المشدد إذا لم تثبت صحة ما يدعون ستدفعهم بالضرورة إلى إيثار السلامة وعدم التقدم للإدلاء بالشهادة، خاصة أن النص لا يحدد ما المقصود بالكذب. أضف إلى ذلك أيضًا تجاهل المشروع النص على تغيير الهوية الشخصية كإحدى وسائل حماية الشهود، إن لم يكن أهمها على الإطلاق. فأغلب قوانين حماية الشهود تأتي على ذكر تغيير الهوية بوصفه أداة رئيسية لحماية الشاهد، وذلك باتباع إجراءات مثل التنكر وتغيير محل الإقامة وتغيير بيانات الشخص في الأوراق الرسمية، دون أن يؤدي ذلك بالطبع إلى المساس بحقوق أية أطراف ثالثة يلتزم الشاهد تجاهها بأية التزامات مادية أو قانونية.
 
خلاصة القول إن عمليات الإرهاب التى تمارسها بعض الجماعات تحت ادعاءات باطلة ومحرمة شرعًا ومجرمة قانونًا، تفرض على الحكومة الحالية بدلاً من انشغالها بتشريعات يمكن التمهل في إصدارها كما هو الحال فى قانون التظاهر لحين وجود برلمان منتخب معبرًا عن الإرادة الشعبية، أن تُسرع بإعادة صياغة القانون الذي تم إعداده في عهد حكومة الدكتور قنديل، بما يضمن فعاليته فى حماية الشهود أخذًا فى الاعتبار أن يتضمن القانون حماية الشهود العسكريين أيضًا وليس المدنيين فقط إذا أردنا أن تكون هناك عدالة سريعة وناجزة.