مجلس الشورى بين الإبقاء والإلغاء: رؤية مغايرة

  • 160

في كثير من اللحظات التي تواجهها المجتمعات، تُتخذ قرارات مصيرية من قبل أناس يعتقدون فيها الصواب ثم يكشف الواقع عن جسامة هذه الأخطاء التي ربما تصل إلى مستوى الخطايا التي يصعب فيما بعد معالجة تداعياتها أو التقليل من مخاطرها، ينطبق هذا الرأي على ما اتخذته لجنة الخمسين المعنية بإعداد المشروع النهائي للتعديلات الدستورية بقرارها بإلغاء مجلس الشورى تحت مجموعة من المبررات والمزاعم التي لا يمكن أن يقبلها الواقع المصري بعد ثورته الشعبية وموجهتها التصحيحة.
ودون الدخول في مناقشات تفصيلية حول ما شهدته اللجنة في اجتماعها المغلق لحسم هذا الموضوع، فثمة ملاحظتان واجبتا التسجيل في هذا الخصوص ربما تساعدان على إجلاء الصورة أمام الرأي العام فى قضية مهمة ربما تكون أيضًا من القضايا المصيرية التي حدث كثير من اللغط والتشويش على تفاصيلها، وذلك على النحو التالى:

أولاً- من المهم أن يُدرك الجميع أن مناقشة قضية وجود غرفة ثانية للبرلمان المصري في تلك المرحلة يجب أن يتم في إطار النظرة إلى المستقبل وليس في إطار البكاء على الماضي. فمن مهام لجنة الخمسين ومن قبلها لجنة الخبراء أن تضع دستورًا يليق بمصر المستقبل، على أن يعالج مشكلات الماضي وأخطائه، دون أن يظل الماضي هو الحاكم لتوجهاتنا.
صحيح أنه إذا كان من الأهمية استقراء الماضي للاستفادة من خبراته وتفادي أخطائه، فإنه من الصحيح أيضًا ألا نظل أسرى للماضي ندور في فلكه ونتحسس خطواته بما يفقدنا الحاضر ولحظاته، والمستقبل وطموحاته، وهو ما ينطبق على نظرة المنادين بإلغاء مجلس الشورى، فجُل مبرراتهم تنطلق من وضع المجلس ودوره في المرحلة السابقة، فنجد هناك كثيرين من يعلو صوتهم بأن المجلس كان عديم الدور والتأثير، وهذا صحيح في جانب ولكنه خاطئ في جانب آخر، فصحيح أن المجلس كان عديم الدور في الجانب التشريعي والرقابي كمجلس برلماني منتخب. ولكن هذا الرأي خاطئ إذا ما نظرنا إلى الاختصاصات الدستورية الممنوحة لهذا المجلس، فلم يمنحه الدستور اختصاصًا تشريعيًا ولا رقابيًا يمكننا محاسبته عليه كما هو الحال في مجلس الشعب. فبالرجوع إلى النصوص الدستورية المتعلقة باختصاصات المجلس فى دستور 1971، وتحديدًا فى مادتى (194، 195) حتى بعد التعديلات التي أُدخلت على الدستور عام 2007، فظل دروه قائمًا على تقديم الدراسات والتقارير في الموضوعات الخاصة بالوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي والسياسات العامة للدولة..إلخ.
ولم يتجاوز اختصاصه التشريعي حد وجوبية الموافقة إلا على ثلاثة موضوعات، وهي: تعديل الدستور والقوانين المكملة للدستور ومعاهدات الصلح والتحالف، في حين ظلت سلطته استشارية في بقية ما يُعرض عليه كمشروع الخطة الاقتصادية والاجتماعية للدولة وغيرها من التشريعات التي يحيلها رئيس الجمهورية إليه بسلطته التقديرية.
أما بالنسبة إلى الاختصاص الرقابي، فلم يمنح الدستور للمجلس أية أدوات يمكن من خلالها ممارسة الرقابة على أداء الحكومة حيث اقتصر الأمر على أداتي: الاقتراح برغبة وطلب المناقشة، وهما أداتان أقرب إلى توجيه الحكومة في أداء مهامها، منها إلى أدوات رقابية على نشاط الحكومة وعمل أعضائها.
ولم يختلف الأمر كثيرًا بالنسبة إلى ما ورد في دستور 2012، فظل الدور الرقابي للمجلس منعدمًا إلا من هاتين الأداتين سابق الإشارة إليهما. أما بالنسبة إلى الاختصاص التشريعي، فقد نص الدستور على وجوبية موافقة المجلس على التشريعات كافة دون الحق في اقتراح مشروعات القوانين حيث قصّر هذا الأمر على الحكومة ومجلس النواب فقط، إلا في حالة غياب مجلس النواب، يتولى المجلس الاختصاصات التشريعية شريطة أن تعرض على مجلس النواب فور انعقاده لتقرير ما يراه بشأنها، وهو ما يعني عدم ثقة المشرع الدستوري فيما يصدره هذا المجلس من تشريعات منفردة. ويعني كل ما سبق أن مجلس الشورى لم يُمنح اختصاصات تشريعية ورقابية فعلية يمكن تقييم أدائه من خلالها.

ثانيًا- يرى مؤيدو الإلغاء أن اللحظة التي تمر بها مصر اليوم تستوجب الإسراع للانتهاء من المرحلة الانتقالية والبدء في بناء الدولة العصرية، وهو قول صحيح بل يُعد مطلبًا ملحًا لقطاعات المجتمع كافة. فقد عانى الجميع خلال الأعوام الثلاثة الماضية وعلى مدار العقود الماضية من مشكلات عديدة، وتطلع الشعب إلى ثورته للبدء في اتخاذ خطوات تصحح مسار حياته وترسم خطى مستقبله على أسس سليمة. ولكن، يجب أن نميز بين أمرين: السرعة في الإنجاز والتسرع في الأداء.
فإذا كان المطلوب هو السرعة في الإنجاز، فإنه من غير المطلوب التسرع في الأداء بل الدقة في الأداء كي لا ينحرف المسار مرة أخرى وتدخل الدولة برمتها في أزمات متتالية وانحرافات مستمرة بما يهدد كيانها واستقرارها.
فهل وجود مجلس واحد يضمن تحقيق هذه المعادلة المتمثلة في السرعة في الأداء والدقة في الإنجاز؟ أم قد يؤدى بنا إلى التسرع في الأداء فحسب؟ فالتشريع العادي هو المنظم الأول لحركة المجتمع وأفراده، والضابط الأساسي في أداء الدولة ومؤسساتها، فإذا ما صدر التشريع دون تروي أو قراءة صحيحة للواقع الملتبس بتدخلاته وتشابكاته فمن شأنه أن يعيد الكرة إلى الخلف خطوات عديدة، فبدلاً من أن يصبح التشريع دافعًا لحركة المجتمع إلى الإمام يتحول إلى معطل أو معوق يؤثر في مسيرة التقدم والبناء التي من أجلها قامت الثورة المصرية بعدما انحرف القائمون على الأمر بمسار بناء هذه الدولة عن طموحات أبنائها وتطلعاتهم.
أضف إلى ذلك أن ما يدعيه البعض بشأن التكلفة المالية التي تتحملها الموازنة العامة للدولة بسبب وجود الغرفة الثانية، فهو أمر مردود عليه من جانبين:
الأول، أن جزءا كبيرا من هذه التكلفة تغطي مرتبات العاملين في المجلس وهؤلاء موظفون في الجهاز الإدارى للدولة سيتم نقلهم بكافة حقوقهم المالية إلى مجلس النواب بما يعنى استمرار جزء من هذه التكلفة.
أما الثاني، فهل يمكن أن ننظر إلى العبء المالي الذي تتحمله الدولة إذا كان الهدف من وراءه توسيع حجم المشاركة السياسية كهدف أساسي لبناء الدولة العصرية التي يجب أن يشارك في بنائها كافة أبناء الشعب بمختلف انتماءاتهم وتوجهاتهم هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، فلماذا لم ينظر هؤلاء إلى التكلفة أو العبء المالي الذي تتحمله الموازنة العامة للدولة إذا ما صدرت تشريعات غير منضبطة أو مخالفة للدستور ثم تم إبطالها بأحكام المحكمة الدستورية، سواء على مستوى الخسارة التي تكبدتها الدولة في إصدار هذه التشريعات أو على مستوى التعويضات التي تلتزم بها تجاه المتضررين منها.

خلاصة القول: يجب على لجنة الخمسين وهي لجنة تضم بين جنباتها قامات قانونية وخبرات سياسية أن تنظر إلى مثل هذه القضايا بعين المستقبل التي تستهدف تصحيح أخطاء الماضي وتصويب انحرافاته دون أن تأتي على كل ما جرى في الماضي وهدمه، فإذا كان مجلس الشورى في الخبرة الماضية لم يقدم شيئًا إلى الحياة السياسية المصرية كما يرى هؤلاء وهذه النظرة تحتاج إلى تصحيح ومراجعة بصورة بعيدة حيادية عن التحيزات أو المواقف الشخصية، فإنه من الواجب أن تأتي هذه اللجنة في تلك اللحظة الراهنة وتعيد بناء هذه المؤسسات على أسس صحيحة تستوعب واقع الدولة المصرية بمشكلاتها، وتسهم في رسم مستقبلها بطموحات أبنائها.