رضا ثابت في حواره مع الفتح: تشريع حد الردة يجعل الإسلام مهاب الجانب

  • 715
الشيخ رضا ثابت- عضو مجلس شورى الدعوة السلفية

لابد وأن نعود في كل أمر إلى المتخصصين ومنهم علماء الجرح والتعديل من أهل الحديث ..
ليس في النصوص التي ذكرها القرآن الكريم حرية التنقل من الإسلام إلى غيره..

يَجِبُ أَن نتذكَّرَ أَنَّ هُنَاكَ جُهُودًا غَرْبِيَّةً تسعى منذ أكثرَ من سِتّينَ عامًا؛ لِتَرْسيخِ حَقِّ المسلم في تغييرِ دِيانَتِه؛ حتّى تفتح مجال العمل أمام المُنَظّمات التّنصيريّة

الجواب عما افتراه "إسلام بحيري" من شبهات حول "حد الردة"


أفكاره تعكر السلم الوطني وتثير الفتن.. يبث أفكارا شاذة تمس ثوابت الدين وتنال من تراث الأئمة المجتهدين المتفق عليهم وتسىء لعلماء الإسلام،
بهذه الأوصاف صدر بيان للأزهر الشريف في السابع من شهر إبريل الجاري، حول ما يقدمه إعلامي الفتنة، المدعو إسلام بحيري، والذي جاء التحرك القانوني ضد برنامجه وما يروجه بعد استفحال خطره وتَعالي أصوات الجماهير مستنجدة بالأزهر الشريف لوقف هذا البرنامج،
كان إيقاف هذا الإعلامي أمراً ضروريا، لاعتبارات عدة قد لا يكون هذا مجال ذكرها؛
ولكن كان لابد من رد علمي على شبهات البحيري وأمثاله، حتى لا يكون غاية ما يخرج هو السخرية والسب والشتم دون وجود رد متكامل، فالاكتفاء بالمنع فقط يؤدي لتضخم الفتنة خاصة بين شباب قد يكون مفتونا به أصلا،

من أجل ذلك وغيره، كان لنا هذا الحوار مع فضيلة الشيخ رضا ثابت -حفظه الله- عضو مجلس شورى الدعوة السلفية، والذي يرد فيه عما أثير من أباطيل وافتراءات وشبهات حول حد الردة،

فإلى نص الحوار..

· هناك مجموعة من الأباطيل التي افتراها المدعو "إسلام بحيري" حول حد الردة هل من الممكن أن نحصل منكم على ردود عليها،
-نسأل الله العون والتيسير، تفضل،
· بداية، ما هو ردكم على دعواه بأن حد الردة جاء في حديث واحد فقط ؟
-قوله: «أنه ليس هناك إلا حديث واحد». كذب محض؛
فهناك أحاديث عدة، منها هذا الحديث الذي ذكره، وهو حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه». رواه البخاري (3017)، وأحمد (1871)، وأبو داود (4351)، والترمذي ( 1458)، والنسائي (4059)، وابن ماجة (2535)، وابن حبان ( 4476)، وغيرهم.
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة». رواه البخاري (6878), ومسلم (1676)، وأحمد (3621), وأبو داود (4352), والترمذي (1402), والنسائي (4016), وابن ماجة (2534), وغيرهم.
وهذا الحديث رواه الجماعة (أي: البخاري ومسلم وأحمد وأصحاب السنن الأربعة؛ أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة) وغيرهم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
وكذلك صح هذا من حديث عثمان رضي الله عنه، عند أحمد وأبي داود والترمذي والنسائي، وهذا سياق أبي داود:
حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن أبي أمامة ابن سهل، قال: كنا مع عثمان وهو محصور في الدار، وكان في الدار مدخل، من دخله سمع كلام من على البلاط، فدخله عثمان، فخرج إلينا وهو متغير لونه، فقال: إنهم ليتواعدونني بالقتل آنفًا، قال: قلنا: يكفيكهم الله يا أمير المؤمنين، قال: ولـِمَ يقتلونني؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إسلام، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس»؛ فوالله ما زنيت في جاهلية، ولا في إسلام قط، ولا أحببت أن لي بديني بدلًا منذ هداني الله، ولا قتلت نفسًا، فبِمَ يقتلونني؟ قال أبو داود: «عثمان وأبو بكر رضي الله عنهما تركا الخمر في الجاهلية». رواه أبو داود (4502), والترمذي (2158), والنسائي (4019), وصححه الألباني رحمه الله.
وكذلك صحَّ من حديث أُمِّنَا عائشة رضي الله عنها عند النسائي وغيره،
قال النسائي رحمه الله: "أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرو بْنِ غَالِبٍ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا رَجُلٌ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانِهِ، أَوْ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، أَوِ النَّفْسُ بِالنَّفْسِ». رواه أحمد (24304), والنسائي (4017), وصححه الألباني رحمه الله. وَقَفَهُ زُهَيْرٌ".
وكذلك حديث معاذ رضي الله عنه، عند البخاري ومسلم وأحمد وأبي داود والنسائي، وهذا سياقه: "عن أبي موسى، قال: أقبلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومعي رجلان من الأشعريين؛ أحدهما عن يميني، والآخر عن يساري، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك، فكلاهما سأل (أي: سأل العمل)، فقال: "يا أبا موسى، أو: يا عبد الله بن قيس". قال: قلت: والذي بعثك بالحق ما أطلعاني على ما في أنفسهما، وما شعرت أنهما يطلبان العمل، فكأني أنظر إلى سواكه تحت شفته قلصت، فقال: «لن، أو: لا نستعمل على عملنا من أراده، ولكن اذهب أنت يا أبا موسى، أو يا عبد الله بن قيس، إلى اليمن» ثم أتبعه معاذ بن جبل، فلما قدم عليه ألقى له وسادة، قال: انزل، وإذا رجل عنده موثق، قال: ما هذا؟ قال: كان يهوديًّا فأسلم ثم تهوَّد، قال: اجلس، قال: لا أجلس حتى يُقتَل، قضاء الله ورسوله، ثلاث مرات. فأمر به فقُتِل، ثم تذاكرا قيام الليل، فقال أحدهما: «أمَّا أنا فأقوم وأنام، وأرجو في نومتي ما أرجو في قومتي». رواه البخاري (6923), ومسلم (1733), وأحمد (19666), وأبو داود (4354), والنسائي (4066).

· وما هو ردكم على دعواه بأن هذا الحديث فيه راوٍ متهم في عقيدته وقد رمي بالكذب - وهو عكرمة رحمه الله- ؟
بداية نقول: لابد وأن نعود في كل أمر إلى المتخصصين فيه، والمتخصصون هنا هم علماء الجرح والتعديل من أهل الحديث، وهم أدرى بالرجال وأعلم،
فلنترك المجال لفارس الحلبة في هذا الميدان؛ حافظ مصر والدنيا في زمانه؛ الحافظ ابن حجر رحمه الله؛ حيث يقول:
«عكرمة، أبو عبد الله، مولى ابن عباس، أصله بربري، ثقة ثبت، عالم بالتفسير، لم يثبت تكذيبه عن ابن عمر، ولا تثبت عنه بدعة، مات سنة أربع ومائة، وقيل بعد ذلك». تقريب التهذيب (ص: 397).
ثم يفصل رحمه الله الكلام في الذبِّ عن عكرمة رحمه الله فيقول: «عكرمة أبو عبد الله مولى ابن عباس؛ احتجَّ به البخاري وأصحاب السنن، وتركه مسلم فلم يخرج له سوى حديث واحد في الحج مقرونًا بسعيد بن جبير، وإنما تركه مسلم لكلام مالك فيه؛ وقد تعقب جماعة من الأئمة ذلك، وصنفوا في الذَّبِّ عن عكرمة، منهم ابن جرير الطبري، ومحمد بن نصر المروزي، وأبو عبد الله بن منده، وأبو حاتم بن حبان، وأبو عمر بن عبد البر، وغيرهم، وقد رأيت أن أُلَـخِّص ما قيل فيه هنا، وإن كنت قد استوفيت ذلك في ترجمته من مختصري لتهذيب الكمال».
فأمَّا أقوال من وهاه؛ فمدارها على ثلاثة أشياء:
- على رميه بالكذب،
- وعلى الطعن فيه بأنه كان يرى رأي الخوارج،
- وعلى القدح فيه بأنه كان يقبل جوائز الأمراء؛
فهذه الأوجه الثلاثة يدور عليها جميع ما طعن به فيه،
فأمَّا البدعة فإن ثبتت عليه فلا تضر حديثه؛ لأنه لم يكن داعية -مع أنها لم تثبت عليه
وأما قبول الجوائز فلا يقدح أيضًا إلا عند أهل التشديد، وجمهور أهل العلم على الجواز، كما صنف في ذلك ابن عبد البر،
وأما التكذيب فسنُبَيِّن وجوه رده بعد حكاية أقوالهم، وأنه لا يلزم من شيء منه قدح في روايته؛
فأما الوجه الأول؛ فهو أن فيه أقوال؛ أشدها ما روي عن ابن عمر أنه قال لنافع: لا تكذب عليَّ كما كذب عكرمة على ابن عباس.... فذكر ما ادعي عليه به، ثم أجاب فقال:
فأما الوجه الأول فقول ابن عمر هذا لم يثبت عنه؛ لأنه من رواية أبي خلف الجزار عن يحيى البكاء أنه سمع ابن عمر يقول ذلك، ويحيى البكاء متروك الحديث، قال ابن حبان: ومن الـمُحال أن يُـجرح العدل بكلام المجروح، وقال ابن جرير: إن ثبت هذا عن ابن عمر فهو محتمل لأوجه كثيرة لا يتعيَّن منه القدح في جميع روايته؛ فقد يُـمكن أن يكون أنكر عليه مسألة من المسائل كذبه فيها.
قلت: وهو احتمال صحيح؛ لأنه روي عن ابن عمر أنه أنكر عليه الرواية عن ابن عباس في الصرف، ثم استدل ابن جرير على أن ذلك لا يوجب قدحًا فيه بما رواه الثقات عن سالم بن عبد الله بن عمر أنه قال، إذ قيل له إن نافعًا مولى ابن عمر حدث عن ابن عمر في مسألة الإتيان في المحل المكروه: "كذب العبد على أبي"، قال ابن جرير: ولم يروا ذلك من قول سالم في نافع جرحًا؛ فينبغي أن لا يروا ذلك من ابن عمر في عكرمة جرحًا.
وقال ابن حبان: أهل الحجاز يطلقون "كذب" في موضع "أخطأ"، ذكر هذا في ترجمة برد من كتاب الثقات، ويؤيد ذلك إطلاق عبادة بن الصامت قوله :كذب أبو محمد، لما أخبر أنه يقول: الوتر واجب؛ فإن أبا محمد لم يقله روايةً، وإنما قاله اجتهادًا، والمجتهد لا يُقال إنه كذب، إنما يُقال إنه أخطأ، وذكر ابن عبد البر لذلك أمثلة كثيرة.
وأمَّا ذم مالك؛ فقد بين سببه، وأنه لأجل ما رمي به من القول ببدعة الخوارج، وقد جزم بذلك أبو حاتم، قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن عكرمة، فقال: ثقة. قلت: يحتج بحديثه؟ قال: نعم؛ إذاً فقد روى عنه الثقات، والذي أنكر عليه مالك؛ إنما هو بسبب رأيه، على أنه لم يثبت عنه من وجه قاطع أنه كان يرى ذلك، وإنما كان يوافق في بعض المسائل فنسبوه إليهم.
وقد برَّأه أحمد والعجلي من ذلك، فقال -في كتاب الثقات- :عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما: مكي، تابعي، ثقة، بريء مما يرميه الناس به من الحرورية، وقال ابن جرير: لو كان كل من ادعي عليه مذهب من المذاهب الرديئة ثبت عليه ما ادعي به وسقطت عدالته وبطلت شهادته بذلك، للزم ترك أكثر محدثي الأمصار؛ لأنه ما منهم إلا وقد نسبه قوم إلى ما يرغب به عنه.
وأمَّا قبوله لجوائز الأمراء؛ فليس ذلك بمانع من قبول روايته، وهذا الزهري قد كان في ذلك أشهر من عكرمة، ومع ذلك فلم يترك أحد الرواية عنه بسبب ذلك.
وإذا فرغنا من الجواب عما طعن عليه به؛ فلنذكر ثناء الناس عليه من أهل عصره؛ فقد قال محمد بن فضيل عن عثمان بن حكيم: كنت جالسًا مع أبي أمامة بن سهل بن حنيف، فجاء عكرمة فقال: يا أبا أمامة؛ أذكرك الله، هل سمعت ابن عباس يقول ما حدثكم عني عكرمة فصدقوه فإنه لم يكذب عليَّ؟ فقال أبو أمامة: نعم وهذا إسناد صحيح، وقال يزيد النحوي عن عكرمة: قال لي ابن عباس: انطلق فأفت الناس.
وحكى البخاري عن عمرو بن دينار قال: أعطاني جابر بن زيد صحيفة فيها مسائل عن عكرمة، فجعلت كأني أتباطأ، فانتزعها من يدي وقال: هذا عكرمة مولى ابن عباس، هذا أعلم الناس، وقال الشعبي: ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة، وقال حبيب بن أبي ثابت: مرَّ عكرمة بعطاء وسعيد بن جبير فحدثهما، فلما قام قلت لهما: تنكران مما حدث شيئًا؟ قالا: لا، وقال حبيب أيضًا: اجتمع عندي خمسة؛ طاوس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وعطاء؛ فأقبل مجاهد وسعيد يلقيان على عكرمة المسائل، فلم يسألاه عن آية إلا فسرها لهما، فلما نفد ما عندهما، جعل يقول: نزلت آية كذا في كذا ونزلت آية كذا في كذا.
وقال ابن عيينة: كان عكرمة إذا تكلم في المغازي فسمعه إنسان قال: كأنه مشرف عليهم يراهم، قال: وسمعت أيوب يقول: لو قلت لك إن الحسن ترك كثيرًا من التفسير حين دخل عكرمة البصرة حتى خرج منها لصدقت، وقال عبد الصمد بن معقل: لـمَّا قدم عكرمة الجند أهدى له طاوس نجيبًا بستين دينارًا، فقيل له في ذلك فقال: ألا أشتري علم ابن عباس لعبد الله بن طاوس بستين دينارًا.
وقال الفرزدق بن خراش: قدم علينا عكرمة "مرو"، فقال لنا شهر بن حوشب: ائتوه؛ فإنه لم تكن أمة إلا كان لها حبر، وإن مولى هذا كان حبر هذه الأمة، وقال جرير عن مغيرة: قيل لسعيد بن جبير: هل تعلم أحدًا أعلم منك؟ قال: نعم؛ عكرمة، وقال قتادة: كان أعلم التابعين أربعة؛ فذكره فيهم، قال: وكان أعلمهم بالتفسير، وقال معمر عن أيوب: كنت أريد أن أرحل إلى عكرمة؛ فإني لفي سوق البصرة إذ قيل لي: هذا عكرمة. فقمت إلى جنب حماره، فجعل الناس يسألونه وأنا أحفظ.
وقال حماد بن زيد: قال لي أيوب: لو لم يكن عندي ثقة لم أكتب عنه، وقال يحيى بن أيوب: سألني ابن جريج، هل كتبتم عن عكرمة؟ قلت: لا. قال: فاتكم ثلث العلم، وقال حبيب بن الشهبد: كنت عند عمرو بن دينار فقال: والله ما رأيت مثل عكرمة قط، وقال سلام بن مسكين: كان عكرمة من أعلم الناس بالتفسير، وقال سفيان الثوري: خذوا التفسير من أربعة، فبدأ به، وقال البخاري: ليس أحد من أصحابنا إلا احتجَّ بعكرمة.
وقال جعفر الطيالسي عن ابن معين: إذا رأيت إنسانًا يقع في عكرمة فاتهمه على الإسلام، وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: أيهما أحب إليك؛ عكرمة عن ابن عباس أو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عنه. قال: كلاهما، ولم يختر، فقلت: فعكرمة أو سعيد بن جبير. قال: ثقة وثقة، ولم يختر. وقال النسائي في التمييز وغيره: ثقة وتقدم توثيق أبي حاتم والعجلي. وقال المروزي: قلت لأحمد بن حنبل: أيحتج بحديثه؟ قال: نعم.
وقال أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي: أجمع عامة أهل العلم على الاحتجاج بحديث عكرمة، واتفق على ذلك رؤساء أهل العلم بالحديث من أهل عصرنا؛ منهم أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور، ويحيى بن معين، ولقد سألت إسحاق عن الاحتجاج بحديثه؛ فقال: عكرمة عندنا إمام أهل الدنيا، وتعجَّب من سؤالي إياه، قال: وحدَّثنا غير واحد أنهم شهدوا يحيى بن معين وقد سأله بعض الناس عن الاحتجاج بعكرمة فأظهر التعجب، وقال علي بن المديني: كان عكرمة من أهل العلم، ولم يكن في موالي بن عباس أغزر علمًا عنه.
وقال ابن منده: قال أبو حاتم: أصحاب ابن عباس عيال على عكرمة، وقال البزار: روى عن عكرمة مائة وثلاثون رجلًا من وجوه البلدان كلهم رضوا به، وقال العباس بن مصعب المروزي: كان عكرمة أعلم موالي ابن عباس وأتباعه بالتفسير، وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: كان عكرمة من أثبت الناس فيما يروي، ولم يُـحَدِّث عمَّن هو دونه أو مثله، أكثر حديثه عن الصحابة رضي الله عنهم، وقال أبو جعفر ابن جرير: ولم يكن أحد يدفع عكرمة عن التقدم في العلم بالفقه والقرآن وتأويله وكثرة الرواية للآثار، وأنه كان عالـمًا بمولاه، وفي تقريظ جلة أصحاب بن عباس إياه ووصفهم له بالتقدم في العلم وأمرهم الناس بالأخذ عنه، بشهادة بعضهم، ما يثبت عدالة الإنسان، ويستحق جواز الشهادة، ومن ثبتت عدالته لم يقبل فيه الجرح، ولا تسقط العدالة بالظن، ولا بقول فلان لمولاه: لا تكذب عليَّ، وما أشبهه، من القول الذي له وجوه وتصاريف ومعانٍ غير الذي وجهه إليه أهل الغباوة ومَن لا علم له بتصاريف كلام العرب.
وقال ابن حبان: كان من علماء زمانه بالفقه والقرآن، ولا أعلم أحدًا ذمَّه بشيء؛ يعني يجب قبوله والقطع به، وقال ابن عدي في الكامل: ومن عادته فيه أن يخرج الأحاديث التي أنكرت على الثقة أو على غير الثقة، فقال فيه -بعد أن ذكر كلامهم في عكرمة-: ولم أخرج هنا من حديثه شيئًا؛ لأن الثقات إذا رووا عنه فهو مستقيم، ولم يمتنع الأئمة وأصحاب الصحاح من تخريج حديثه، وهو أشهر من أن أحتاج إلى أن أخرج له شيئًا من حديثه، وقال الحاكم أبو أحمد في الكنى: احتج بحديثه الأئمة القدماء، لكن بعض المتأخرين أخرج حديثه من حيز الصحاح احتجاجًا بما سنذكره، ثم ذكر حكاية نافع، وقال ابن منده: «أما حال عكرمة في نفسه فقد عدله أمة من نبلاء التابعين فمن بعدهم، وحدثوا عنه واحتجوا بمفاريده في الصفات والسنن والأحكام، وروى عنه ما يقرب من ثلاثمائة رجل من البلدان منهم زيادة على سبعين رجلًا من خيار التابعين ورفعائهم، وهذه منزلة لا تكاد توجد لكثير من التابعين، على أن من جرحه من الأئمة لم يمسك من الرواية عنه، ولم يستغنِ عن حديثه، وكان يتلقى حديثه بالقبول، ويحتج به قرنًا بعد قرن وإمامًا بعد إمام إلى وقت الأئمة الأربعة الذين أخرجوا الصحيح، وميزوا ثابته من سقيمه، وخطأه من صوابه، وأخرجوا روايته وهم البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي؛ فأجمعوا على إخراج حديثه، واحتجوا به، على أن مسلمًا كان أسوأهم رأيًا فيه، وقد أخرج عنه مقرونًا، وعدله بعدما جرحه». تهذيب التهذيب (7/ 272).
وقال أبو عمر بن عبد البر: كان عكرمة من جلة العلماء، ولا يقدح فيه كلام من تكلم فيه؛ لأنه لا حجة مع أحد تكلم فيه، وأما كلام ابن سيرين فيه؛ فلا خلاف بين أهل العلم أنه كان أعلم بكتاب الله من ابن سيرين، وقد يظن الإنسان ظنًّا يغضب له ولا يملك نفسه، قال: وزعموا أن مالكًا أسقط ذكر عكرمة من الموطأ، ولا أدري ما صحته؛ لأنه قد ذكره في الحج، وصرح باسمه، ومال إلى روايته عن ابن عباس، وترك عطاء في تلك المسألة، مع كون عطاء أجل التابعين في علم المناسك، والله أعلم.
وقد أطلنا القول في هذه الترجمة، وإنما أردنا بذلك جمع ما تفرق من كلام الأئمة في شأنه، والجواب عمَّا قيل فيه، والاعتذار للبخاري في الاحتجاج بحديثه، وقد وضح صحة تصرفه في ذلك، والله أعلم. فتح الباري لابن حجر (1/425 - 430) بتصرف واختصار.

· وكيف تجيبون عن دعواه بأن هذا الحديث يُعارِض القرآن ؟ فالقرآن يدعو إلى حرية العقيدة، فقد استدل بقوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر}، مدعيا أن الأمر فيها للتخيير، واستدل كذلك بقوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، خاصة وأن الأمر قد وصل به إلى أن يقول: «هل يُـمكن لحديث واحد أن يلغي 21 نصًّا قرآنيًّا» ؟

دعواه أن القرآن يُعارِض السنة في ذلك، وأن القرآن يدعو إلى حرية التنقل من الإسلام إلى غيره؛ هذا تضليل منه،
والجواب على ذلك من وجوه عدة:-
أولًا: ليس في النصوص التي ذكرها القرآن حرية التنقل من الإسلام إلى غيره؛
فقوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر} هذا أمر للتهديد وليس للتخيير؛ بدليل ما بعدها {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا}، يقول ابن كثير رحمه الله : «{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر} هذا من باب التهديد والوعيد الشديد؛ ولهذا قال: {إِنَّا أَعْتَدْنَا}؛ أي: أرصدنا {لِلظَّالِمِينَ} وهم الكافرون بالله ورسوله وكتابه، {نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا}؛ أي: سورها». تفسير ابن كثير ت سلامة (5/ 154).
وقال ابن النجار رحمه الله، وهو يذكر المعاني التي ترد بها صيغة الأمر: «وَمِنْهَا، وَهُوَ الْحَادِي وَالثَّلاثُونَ: الْوَعِيدُ؛ نَحْوُ قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}، وَلَكِنْ هَذَا مِنْ التَّهْدِيدِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: التَّهْدِيدُ أَبْلَغُ مِنْ الْوَعِيدِ». مختصر التحرير شرح الكوكب المنير (3/ 37).
أمَّا الاستدلال بقوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}؛ فهذا في حرية الدخول في الإسلام لا في حرية الخروج منه؛ يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: «يقول تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}؛ أي: لا تُكرِهوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام؛ فإنه بيِّن واضح، جلية دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يُكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونوَّر بصيرته دخل فيه على بيِّنَة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرهًا مقسورًا. وقد ذكروا أن سبب نزول هذه الآية في قوم من الأنصار، وإن كان حكمها عامًا». تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 682).
ثانيًا: ليس في النصوص التي ذكرها تعارُض مع السنة؛
لأنها ليس فيها نهي عن قتل المرتد، بل غاية ما فيها ذكر عاقبته في الآخرة، والسكوت عن حكمه في الدنيا كقوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون}، وإن كان هو يكذب ويقول أن القرآن عارض السنة ولم يسكت عن حكم المرتد في هذه الآيات.
ثالثًا: قد ورد في القرآن ما يُشير إلى أن المرتد يقتل، وذلك بالنص على بعض أنواع المرتدين؛ فمنها قوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)}.
قال الطبري رحمه الله: «وقوله: }مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا{ يقول تعالى ذكره: مطرودين منفيين، }أَيْنَمَا ثُقِفُوا{ يقول: حيثما لقوا من الأرض أخذوا وقُتِّلُوا لكفرهم بالله تقتيلًا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
حدَّثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد عن قتادة: (مَلْعُونِينَ) على كل حال (أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وقتلوا تَقْتِيلا) إذا هم أظهروا النفاق».
وهذا الأمر بقتل المنافق إنما هو للإمام, وهو كذلك خاضع للقدرة والعجز والمصلحة والمفسدة.
ومن الأدلة أيضًا قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِير}.
فالآية كما ترى في المرتدين، يقول القرطبي رحمه الله: «السادسة- قوله تعالى: }وَإِنْ يَتَوَلَّوْا{؛ أي: يُعرِضوا عن الإيمان والتوبة }يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا{ في الدنيا بالقتل، وفي الآخرة بالنار». تفسير القرطبي (8/ 208).

· وما هو ردكم على دعواه بأنه لا إجماع على حد الردة، خاصة أنه يستدل على ذلك بقول بعض الدعاة المعاصرين بأن حد الردة فيه خلاف ؟
طعنه في الإجماع على حد الردة، واحتجاجه بقول بعض المعاصرين ممن ينتسبون إلى التيارات الإسلامية -وإن لم يكن لهم من العلم النصيب الكافي-؛ باطل مردود، ودعواه هذه لا تقوم على ساقين، فأقوال أهل العلم من المذاهب الأربعة جميعها، بل وغيرهم فيها الرد على هذه الدعوى المتهافتة،
وإليك أخي الحبيب بعض النقولات في ذلك:
أولًا: مذهب الأحناف:
1- جاء في كتاب السِّيَر لمحمد بن الحسن الشيباني: «قلت: أَرَأَيْت الرجل الْمُسلم إِذا ارْتَدَّ عَن الْإِسْلَام كَيفَ الحكم فِيهِ؟ قَالَ: يُعرَض عَلَيْهِ الْإِسْلَام فَإِن أسلم وَإِلَّا قُتِلَ مَكَانَهُ، إِلَّا أَن يطْلب أَن يُؤَجل فتؤجله ثَلَاثَة أَيَّام. قلت: فَهَل بلغك فِي هَذَا أثر؟ قَالَ: نعم؛ بلغنَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قتل الْمُرْتَد نَحْو من هَذَا، وبلغنا عَن عَليِّ بن أبي طَالب وعبد الله بن مَسْعُود ومعاذ بن جبل نَحْو من هَذَا وَهَذَا الحكم وَالسُّنَّة». السير الصغير (ج1- ص167).
قال الكاساني رحمه الله: «ومنها أن يكون للزوجين ملة يُقِرَّان عليها، فإن لم يكن بأن كان أحدهما مرتدًّا لا يجوز نكاحه أصلًا لا بمسلم ولا بكافر غير مرتد، والمرتد مثله؛ لأنه ترك ملة الإسلام، ولا يقر على الردة، بل يُجبر على الإسلام، إما بالقتل إن كان رجلًا، بالإجماع، وإما بالحبس والضرب إن كانت امرأة، عندنا، إلى أن تموت أو تُسلِم؛ فكانت الردة في معنى الموت؛ لكونها سببًا مفضيًا إليه، والميت لا يكون محلًا للنكاح؛ ولأن ملك النكاح ملك معصوم، ولا عصمة مع المرتد؛ ولأن نكاح المرتد لا يقع وسيلة إلى المقاصد المطلوبة منه؛ لأنه يجبر على الإسلام على ما بيَّنَّا فلا يُفيد فائدته فلا يجوز، والدليل عليه أن الردة لو اعترضت على النكاح رفعته فإذا قارنته تمنعه من الوجود من طريق الأولى كالرضاع؛ لأن المنع أسهل من الرفع». بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (2/ 270).
ثانيًا: مذهب المالكية:
1- قال أبو عمر ابن عبد البر: «كل من أعلن الانتقال عن الإسلام إلى غيره من سائر الأديان كلها طوعًا من غير إكراه وجب قتله بضرب عنقه، واستحب أكثر العلماء من الصحابة ومن بعدهم أن يستتيبوه ثلاثة أيام -لا غير- يوعظ فيها ويُخوَّف؛ لعله أن يُراجِع دينه ويتوب، وقد أوضحنا ما جاء في الآثار عن السلف في هذا المعنى في التمهيد وكتاب الاستذكار». الكافي في فقه أهل المدينة (2- 1089).
2- قال ابن رشد: «وَالْمُرْتَدُّ إِذَا ظُفِرَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يُحَارِبَ فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ، الرَّجُلُ؛ لِقَوْلِهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي قَتْلِ الْمَرْأَةِ، وَهَلْ تُسْتَتَابُ قَبْلَ أَنْ تُقْتَلَ؟ فَقَالَ الْجُمْهُورُ: تُقْتَلُ الْمَرْأَةُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تُقْتَلُ، وَشَبَّهَهَا بِالْكَافِرَةِ الْأَصْلِيَّةِ. وَالْجُمْهُورُ اعْتَمَدُوا الْعُمُومَ الْوَارِدَ فِي ذَلِكَ، وَشَذَّ قَوْمٌ، فَقَالُوا: تُقْتَلُ وَإِنْ رَاجَعَتِ الْإِسْلَامَ.
وَأَمَّا الِاسْتِتَابَةُ فَإِنَّ مَالِكًا شَرَطَ فِي قَتْلِهِ ذَلِكَ عَلَى مَا رَوَاهُ عَنْ عُمَرَ، وَقَالَ قَوْمٌ: لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ». بداية المجتهد (ج4 ص 242).
ثالثًا: مذهب الشافعية:
1- قَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: «وَمَنْ انْتَقَلَ عَنْ الشِّرْكِ إلَى الإيمَان، ثُمَّ انْتَقَلَ عَنْ الْإِيمَانِ إلَى الشِّرْكِ مِنْ بَالِغِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ؛ اُسْتُتِيبَ، فَإِنْ تَابَ قُبِلَ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ». (الأم- ط دار المعرفة ج 1-294).
2- قال النووي رحمه الله في شرحه لحديث معاذ مع أبي موسى رضي الله عنهما: «فيه وُجُوبُ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِهِ، لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي اسْتِتَابَتِهِ؛ هَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ أَمْ مُسْتَحَبَّةٌ؟ وَفِي قَدْرِهَا، وَفِي قَبُولِ تَوْبَتِهِ، وَفِي أَنَّ الْمَرْأَةَ كَالرَّجُلِ فِي ذَلِكَ أَمْ لَا؟ فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالْجَمَاهِيرُ من السلف والخلف: يُستتاب. ونقل ابن الْقَصَّارِ الْمَالِكِيُّ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ، وَقَالَ طَاوُسٌ وَالْحَسَنُ وَالْمَاجِشُونُ الْمَالِكِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ: لَا يُسْتَتَابُ، وَلَوْ تَابَ نَفَعَتْهُ تَوْبَتُهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَسْقُطُ قَتْلُهُ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» شرح صحيح مسلم ج 12- 208.
رابعًا: مذهب الحنابلة:
1- قال عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل: «سَمِعت أبي يَقُول فِي الْمُرْتَد: يُسْتَتَاب ثَلَاثاً؛ فَإِن تَابَ وإلَّا قُتِلَ، على حَدِيث عمر بن الْخطاب». مسائل أحمد بن حنبل رواية ابنه عبد الله ط المكتب الإسلامي 1/430.
2- قال ابن قدامة: «وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَمُعَاذٍ، وَأَبِي مُوسَى، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَخَالِدٍ، وَغَيْرِهِمْ، وَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ؛ فَكَانَ إجْمَاعًا». المغني 9/3.
2- قال ابن مفلح -صاحب المبدع- رحمه الله: «وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ". رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا مُسْلِمًا، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى وُجُوبِ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ». المبدع في شرح المقنع (ج 7- 479).
وقال ابن حزم الظاهري رحمه الله :
واتفقوا أن من كان رجلًا مسلمًا حُرًّا باختياره، وبإسلام أبويه كليهما، أو تمادى على الإسلام بعد بلوغه ذلك ثم ارتد إلى دين كفر كتابي أو غيره، وأعلن ردته، واستتيب في ثلاثين يومًا مائة مرة، فتمادى على كفره وهو عاقل غير سكران؛ أنه قد حلَّ دمه إلا شيئًا رويناه عن عمر وعن سفيان وعن إبراهيم النخعي أنه يُستتاب أبدًا. مراتب الإجماع (ص: 127).
والمشهور عن عمر رضي الله عنه استتابة المرتد ثلاثة أيام، كما ذكره الإمام أحمد رحمه الله والحافظ ابن حجر في فتح الباري (12-269) وغيرهم،
وأما قول النخعي وسفيان: (يستتاب أبدا)، فقال ابن حجر: التحقيق أنه فيمن تكررت منه الردة، وسبقه بذلك الإمام مالك ، فقال شارحا لذلك فيما رواه عنه عبدالله بن وهب: أن المعنى (يستتاب كلما رجع) السنن الكبرى للبيهقي (8-342).

· وما هو ردكم على دعواه بأنه ليس هناك حد للردة، استدلالا بقتل ابن خطل، وترك قتل ابن أبي السرح رضي الله عنه؟ حيث يدعي أنه لو كان حدًّا لقتل الجميع، وأن القتل لابن خطل كان قصاصا؛ لأنه قتل؟
قوله أنه لو كان حدًّا فلماذا قتل ابن خطل ولم يقتل ابن أبي السرح؟ هذا من فرط جهله؛ لأن ابن خطل قتل، ولم يرجع إلى الإسلام، وأما ابن أبي السرح؛ فأسلم، فعصم الإسلام دمه،
وانظر إلى قول الله عز وجل: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُم}. وانظر إلى قول الله تعالى: {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُم}؛ فهذا نصٌّ واضحٌ في أن من تاب كفَّ عنه، وقد كان النبي يُريد قتله؛
فالحاصل أن هذا دليل عليه -لا له-؛ لأنه لو كان الحكم في ابن أبي السرح ألا يقتل رغم أنه ارتد ردة عقدية -وصاحب الردة العقدية عنده لا يقتل- لنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله في بادئ الأمر، ولكن على العكس تمامًا؛ فقد أمر النبي بقتله، وأراد من أصحابه قتله ابتداءا، ولكن لما لم يقتلوه وقبل النبي بيعته وإسلامه عصم.
قال ابن حزم رحمه الله: «فأما ابن خطل، وهو من بني تيم الأدرم بن غالب، كان قد أسلم، وبعثه صلى الله عليه وسلم مصدقًا، وبعث معه رجلًا من المسلمين، فعدا عليه وقتله ولحق بالمشركين، فوجده يوم الفتح، وقد تعلق بأستار الكعبة، فقتله سعيد بن حريث المخزومي وأبو برزة الأسلمي.
وأما عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لحق بمكة فاختفى، وأتى به عثمان بن عفان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أخاه من الرضاعة، فاستأمن له رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فسكت عليه السلام ساعة، ثم أمنه وبايعه. فلما خرج قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: هلَّا قام إليه بعضكم فضرب عنقه؟ فقال رجل من الأنصار: هلَّا أومأت إلينا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ما كان لنبي أن يكون له خائنة الأعين. فعاش حتى استعمله عمر، ثم ولَّاه عثمان مصر. وهو الذى غزا إفريقية، ولم يظهر منه بعد إسلامه إلا خير وصلاح ودين». جوامع السيرة ط العلمية (ص: 184).
ويقول ابن القيم -وهو يتحدث عن الفوائد المستفادة من قصة فتح مكة-: «وفيها من الفقه جواز قتل المرتد الذي تغلظت ردته من غير استتابة؛ فإن عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان قد أسلم وهاجر، وكان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ارتد ولحق بمكة، فلما كان يوم الفتح أتى به عثمان بن عفان رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليبايعه فأمسك عنه طويلًا، ثم بايعه وقال: إنما أمسكت عنه ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه، فقال له رجل: هلَّا أومأت إليَّ يا رسول الله؟ فقال: ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين»؛ فهذا كان قد تغلظ كفره بردته بعد إيمانه وهجرته وكتابة الوحي، ثم ارتد ولحق بالمشركين ليطعن على الإسلام ويعيبه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُريد قتله، فلما جاء به عثمان بن عفان -وكان أخاه من الرضاعة- لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله؛ حياءً من عثمان، ولم يبايعه ليقوم إليه بعض أصحابه فيقتلوه، فهابوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقدموا على قتله بغير إذنه، واستحيا رسول الله صلى الله عليه وسلم من عثمان، وساعد القدر السابق لما يريد الله سبحانه بعبد الله مما ظهر منه بعد ذلك من الفتوح، فبايعه، وكان ممن استثنى الله بقوله: {كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين"؛ أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يُخالف ظاهره باطنه، ولا سره علانيته، وإذا نفذ حكم الله وأمره لم يُومِ به، بل صرَّح به، وأعلنه، وأظهره». زاد المعاد في هدي خير العباد (3/ 407 - 408).

أمَّا تلك الخرافات التي يدَّعيها من أن ابن خطل قتل قصاصًا، وابن أبي السرح لم يقتل لأنها ردة عقدية فقط؛ فلا أصل له إلا في كلامه وكلام أمثاله من المعاصرين الذين خالفوا صراط السابقين من أهل العلم من الصحابة فالتابعين ومن بعدهم: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}.

· كان مما ادعاه أيضا؛ أنه ليس هناك حد للردة، مستدلا بترك قتل "سجاح" وقد ادَّعت النبوة، فما جوابكم عن هذا؟
هذه مثل سابقتها بالضبط، فـ "سجاح" أسلمت أيضًا؛ كما قال ابن حزم رحمه الله تعالى: «وتنبأت سجاح اليربوعية، وتزوجها مسيلمة الكذاب، ثم أسلمت بعد قتل مسيلمة». بجوامع السيرة ط المعارف (ص: 339).
فهل كان من المطلوب أن تؤمر بالردة مرة أخرى حتى تقتل؟!

· هناك مسألة أخرى يا فضيلة الشيخ،

وهي أنه كان يُريد أن يحتج على أنه لا حد للردة، وأن القتل إنما هو لنوع من الردة وهي الردة العسكرية (أي: ارتداد وانضمام للكفار في قتال المسلمين) فأتى بنقل عن ابن القيم رحمه الله يقول فيه: «فأما القتل فجعله عقوبة أعظم الجنايات، كالجناية على الأنفس؛ فكانت عقوبته من جنسه، وكالجناية على الدين بالطعن فيه والارتداد عنه، وهذه الجناية أولى بالقتل وكف عدوان الجاني عليه من كل عقوبة؛ إذ بقاؤه بين أظهر عباده مفسدة لهم، ولا خير يُرجَى في بقائه ولا مصلحة؛ فإذا حبس شره وأمسك لسانه وكفَّ أذاه والتزم الذل والصغار وجريان أحكام الله ورسوله عليه وأداء الجزية؛ لم يكن في بقائه بين أظهر المسلمين ضرر عليهم، والدنيا بلاغ ومتاع إلى حين، وجعله أيضًا عقوبة الجناية على الفروج المحرمة؛ لما فيها من المفاسد العظيمة، واختلاط الأنساب، والفساد العام». إعلام الموقعين عن رب العالمين (2/ 74).
فما هو توجيه هذا الكلام؟ أو كيف تردون على هذه الدعوى؟



استدلاله بكلام ابن القيم هذا؛ مما يفضح جهله، ويُبيِّن ضحالة مستواه العلمي ومستوى فهمه العقيم وإدراكه الناقص، وكيف أن اتباع الهوى يعمي ويصم؛ فالكلام أمامه واضح لكل ذي عينين: «والتزم الذل والصغار وجريان أحكام الله ورسوله عليه وأداء الجزية»،
فعمن يتحدث ابن القيم إذن؟!!
إنه، وبكل وضوح، يتحدث عن الكافر الأصلي لا المرتد؛ فهو يتحدث عن أداء الجزية وجريان أحكام الله ورسوله عليه، أما المرتد فسنُرِي ذلك المخادع كلام ابن القيم الواضح تمامًا فيه؛ فيقول رحمه الله -وهو يُبيِّن حكم النكاح إذا ارتد الزوج: وهل ينفسخ بمجرد الردة وتتعجل الفرقة أم ماذا؟-: «أيضًا القول بتعجيل الفرقة فيها خلاف المعلوم من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين؛ فقد ارتد على عهدهم خلق كثير، ومنهم من لم ترتد امرأته، ثم عادوا إلى الإسلام، وعادت إليهم نساؤهم، وما عرف أن أحدًا منهم أمر أن يجدد عقد نكاحه، مع العلم بأن منهم من عاد إلى الإسلام بعد مدة أكثر من مدة العدة، ومع العلم بأن كثيرًا من نسائهم لم ترتد، ولم يستفصل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه أحدًا من أهل الردة هل عاد إلى الإسلام بعد انقضاء العدة أم قبلها؟ بل المرتد إن استمر على ردته قتل، وإن عاد إلى الإسلام فامرأته وماله باقٍ عليه بحاله، فماله وامرأته موقوف، وفي تعجيل الفرقة تنفير لهم عن العود إلى الإسلام، والمقصود تأليف القلوب على الإسلام بكل طريق». أحكام أهل الذمة (2/ 695).
هذا كله يوضح مقصود الإمام ابن القيم،

ولكن الكاتب لعدم إحسانه التعامل مع كلام العلماء لم ينتبه إلى أن ابن القيم رحمه الله يتكلم عن نوعين من الكفار؛ (الطاعن فيه، والمرتد عنه) وكما هو معلوم من أسلوب ابن القيم أنه يعبر عن المعاني بالاقتباس من القرآن والسنة؛ فقد وصف الكافر الأصلي المحارب بما ورد في القرآن في قوله تعالى: (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون) "التوبة:12" ، "فإذا زال ذاك الوصف وحبس شره وأمسك لسانه وكف أذاه، والتزم الذل والصغار وجريان أحكام الله ورسوله عليه وأداء الجزية لم يكن في بقائه بين أظهر المسلمين ضرر عليهم" ، فأما المرتد فحكمه عند ابن القيم ككل العلماء معلوم وقد مر بنا ذكره، ولكنه هنا ترك الكلام عن المرتد لأنه يتكلم عن أسباب القتل، فذكر منها الكفر الأصلي والردة، ولما كان المرتد لا يقر على كفره فإما أن يسلم وإما أن يقتل فهذا لا يحتاج إلى استفهام، ولكن وكأنه استحضر سؤالا وهو؛ إذا كان القتل عقوبة للكفر فلماذا ترك الكافر الأصلي وقبلت منه الجزية، فذكر الحكمة من ذلك.


· كان مما ادعاه أيضا؛ أنه لا يوجد نص في القرآن يدل على إجبار أحد على الصلاة والصيام، فما هو جوابكم عن هذا ؟

هذا أيضا من فرط تهوره وانعدام علمه؛ فقد قال تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}؛ انظر وتأمل: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}؛
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: «وقوله: {وَخُذُوهُمْ}؛ أي: وأسروهم، إن شئتم قتلًا وإن شئتم أسرًا.
وقوله: {وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ}؛ أي: لا تكتفوا بمجرد وجدانكم لهم، بل اقصدوهم بالحصار في معاقلهم وحصونهم، والرصد في طرقهم ومسالكهم حتى تضيقوا عليهم الواسع، وتضطروهم إلى القتل أو الإسلام؛ ولهذا قال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
ولهذا اعتمد الصديق رضي الله عنه في قتال مانعي الزكاة على هذه الآية الكريمة وأمثالها، حيث حرمت قتالهم بشرط هذه الأفعال، وهي الدخول في الإسلام، والقيام بأداء واجباته. ونبَّه بأعلاها على أدناها، فإن أشرف الأركان بعد الشهادة الصلاة، التي هي حق الله عز وجل، وبعدها أداء الزكاة التي هي نفع مُتعدٍّ إلى الفقراء والمحتاجين، وهي أشرف الأفعال المتعلقة بالمخلوقين؛ ولهذا كثيرًا ما يقرن الله بين الصلاة والزكاة، وقد جاء في الصحيحين عن ابن عمر، رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة». الحديث.
وقال أبو إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال: أمرتم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ومن لم يُزَكِّ فلا صلاة له.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أبى الله أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة، وقال: يرحم الله أبا بكر، ما كان أفقهه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن إسحاق، أنبأنا عبد الله بن المبارك، أنبأنا حميد الطويل، عن أنس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، واستقبلوا قبلتنا، وأكلوا ذبيحتنا، وصلوا صلاتنا، فقد حُرِّمَت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم». ورواه البخاري في صحيحه وأهل السنن إلا ابن ماجه، من حديث عبد الله بن المبارك به. تفسير ابن كثير ت سلامة (4/ 111 - 112).

· إنه أيضا يدعي أنه ليس في السنة نص يوجب أن يُحاسب أحدٌ أحدًا على الصلاة أو عدمها أو الصيام؟

هذا من افترائه على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلاَمِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ». صحيح البخاري (1/ 14).
وقَالَ: «إِنِّي نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ» "الحديث في الإِحسان 7/ 584 برقم (5940). وهو من المصنف10/ 163 برقم (18688). وهذا إسناد صحيح. وأخرجه مالك في قصر الصلاة في السفر (87) باب: جامع الصلاة، من طريق ابن شهاب، به. ولم يذكر صحابي الحديث فهو مرسل.
وأخرجه أحمد 5/ 432 - 433 من طريق عبد الرزاق، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" في الإِيمان 1/ 24 باب: فيما يحرم دم المرء وماله وقال: "رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح ...".
وانظر حديث عتبان بن مالك في مسند أبي يعلى الموصلي برقم (1505، 1506، 1507، 3469) وفي صحيح ابن حبان برقم (223). موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان ت حسين أسد (1/ 110).
وقال البخاري رحمه الله تعالى: حدثنا قتيبة، حدثنا عبد الواحد، عن عمارة بن القعقاع بن شبرمة، حدثنا عبد الرحمن بن أبي نعم، قال: سمعت أبا سعيد الخدري، يقول: بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن بذهيبة في أديم مقروظ، لم تحصل من ترابها، قال: فقسمها بين أربعة نفر، بين عيينة بن بدر، وأقرع بن حابس، وزيد الخيل، والرابع: إما علقمة وإما عامر بن الطفيل، فقال رجل من أصحابه: كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء، قال: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحًا ومساءً»، قال: فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار، فقال يا رسول الله: اتق الله، قال: «ويلك، أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله» قال: ثم ولى الرجل، قال خالد بن الوليد: يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟ قال: «لا، لعله أن يكون يُصلي» فقال خالد: وكم من مُصلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لم أومر أن أُنَقِّب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم». صحيح البخاري (5/ 163).
وقال صلى الله عليه وسلم في مانع الزكاة: «في كل سائمة إبل في أربعين بنت لبون، ولا يفرق إبل عن حسابها من أعطاها مؤتجرًا -قال ابن العلاء مؤتجرًا بها- فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا عز وجل، ليس لآل محمد منها شيء». سنن أبي داود (2/ 101).
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يُخبر أن مانع الزكاة ستؤخذ منه قهرًا بل ويعزر بأخذ شطر -أي: نصف- ماله.
فضيلة الشيخ؛ هل في إقامة حد الردة أصلا ما يعارض العقل؟
دعنا نقول ابتداءً؛ لا تعارض أبدا بين النقل الصريح والعقل الصحيح، وما يوهم ظاهره التعارض فهو راجع لسوء الفهم في الغالب، إن لم يكن لهوى، وهو ما نراه جليا هنا،
ثم نقول؛ أولا: لقد استقر في الفطر خبث الخيانة ولؤم الخائنين، وأن الخيانة تتفاوت؛ ولقد سمعنا منذ صغرنا أن هناك ما يُسمَّى بالخيانة العظمى، واتفقت العقول على أن الخائن الخيانة العظمى يستحق أقصى أنواع العقاب؛ ولذا وجدنا كثيرًا من الدول تُعاقِب صاحب الخيانة العظمى بالإعدام، ولما كانت الرابطة العظمى عند المسلمين هي رابطة الدين كانت الخيانة للدين هي الخيانة العظمى التي يستحق صاحبها أقصى أنواع العقوبة، ولعل القرآن أشار إلى ذلك المعنى؛ كما قال تعالى عن زوجة نبي الله نوح عليه السلام وزوجة نبي الله لوط عليه السلام: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}. -ومعلوم أن خيانتهما كانت في الدين فإن الله نزه الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم عن أن يُدَنَّس فراشهم؛ فلم تزنِ زوجة نبي قط- فما العجيب في أن يعاقب الخائن الطاعن في الدين بالقتل؟! فالمرتد يطعن في الدين واقعًا، فهو حتى وإن لم يطعن بلسانه فهو طاعن بحاله، وإلا فلماذا ترك الدين بعد أن دخل فيه؟ فهو على الأقل يزعم أنه باطل.
ثانيا: تشريع حد الردة يجعل الإسلام مهاب الجانب، ليس لعبة ولا تسلية أو تجربة، وهو كذلك حماية للمسلمين ضعاف الإيمان من أن يتمكَّن الأعداء من تشكيكهم؛ فإنه من اليسير لمن أراد تشكيك هؤلاء أن يدَّعي الإيمان فترة، ثم يخرج من الإسلام ويقول: لقد وجدت الإسلام باطلًا فتركته، ولعل القرآن ألمح إلى ذلك كما قال تعالى: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73)}.
قال ابن كثير: {وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره [لعلهم يرجعون]} هذه مكيدة أرادوها ليلبسوا على الضعفاء من الناس أمر دينهم، وهو أنهم اشتوروا بينهم أن يُظهِروا الإيمان أول النهار ويصلوا مع المسلمين صلاة الصبح، فإذا جاء آخر النهار ارتدوا إلى دينهم ليقول الجهلة من الناس: إنما ردهم إلى دينهم اطلاعهم على نقيصة وعيب في دين المسلمين؛ ولهذا قالوا: {لعلهم يرجعون}.
قال ابن أبي نجيح، عن مجاهد: في قوله تعالى إخبارًا عن اليهود بهذه الآية؛ يعني يهود صلت مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر وكفروا آخر النهار، مكرًا منهم؛ ليُروا الناس أن قد بدت لهم منه الضلالة، بعد أن كانوا اتبعوه.
وقال العوفي، عن ابن عباس: قالت طائفة من أهل الكتاب: إذا لقيتم أصحاب محمد أول النهار فآمنوا، وإذا كان آخره فصلوا صلاتكم، لعلهم يقولون: هؤلاء أهل الكتاب وهم أعلم منا. (وهكذا روي عن قتادة والسدي والربيع وأبي مالك). سنن أبي داود (2/ 101).
· أخيرا، فضيلة الشيخ؛ حتى لا نطيل أكثر من ذلك؛ برأيكم: ما السبب أو الداعي للاهتمام بهذه المسائل والجواب عليها؟
دعنا نجيب على هذا السؤال باقتباس من كلام للشيخ الدكتور نصر فريد واصل، مفتي الديار المصرية الأسبق؛ قال فيه: "يجبُ على الجميعِ الوقوفُ أمامَ قَضيَّةِ المرتدِّين عَنِ الإسلام بِمُنْتَهَى الحَزْمِ؛ حتَّى لا يَسْتَغِلَّ أصحابُ المُنَظَّماتِ التبشِيرِيَّةِ صَمْتَنَا وَهَفَوَاتِ العُلَماءِ؛ كي يَزيدوا من أَنشطَتِهم المعادية للإسلام، وفي ظِلِّ امتلاكِهم المالَ، فإنهم من الممكن أَن يَسْتَغِلُّوا ضِعافَ النفوس منَ الفُقَراءِ المسلمين، وَيَتِمّ إغراؤُهُم بالمال لتَغييرِ دينهم، وَيَجِبُ أَن نتذكَّرَ أَنَّ هُنَاكَ جُهُودًا غَرْبِيَّةً تسعى منذ أكثرَ من سِتّينَ عامًا؛ لِتَرْسيخِ حَقِّ المسلم في تغييرِ دِيانَتِه؛ حتّى تفتح مجال العمل أمام المُنَظّمات التّنصيريّة".