ربعاوي في زمن التتار!

  • 155

جاء الخبر إلى بغداد أن رجلاً ببخارى يعرف بـ "أبي الكرم"، له أتباع،
قال لأصحابه: إني قادرٌ على كسر التتار بمن يتبعني - بقوة الله تعالى - من غير سلاح!
فتبعه طائفةٌ، ونهضوا على شحنة البلد (شرطة البلد) ومن معه فهربوا، وقوي أمره، وتبعه الخلق.
فبلغ ذلك "جرماغون" ملك التتار يومئذٍ، فنفذ جيشاً وشحنه. فخرج لحربهم "أبو الكرم" في ألوفٍ كثيرةٍ بلا سلاح!
وتقدم أمامهم، فأحجم عنهم التتار إلا واحداً (حتى التتار أثرت فيهم دعاية أتباع أبي الكرم!)، فأقدم ليجرّب، وحَمَل على أبي الكرم، فقتله، وشَدّ التتار على الناس قتلاً. ويقال: إن عدة الناس كانوا ستين ألفاً.

انتهى من كلام الإمام الذهبي في سفره العظيم "تاريخ الإسلام"، ص 10-169.

أترى لو عاش "أبو الكرم" - رحمه الله وغفر له - إلى زماننا، هل كان سيترك اعتصام رابعة دون أن يكون هو قائده وداعيه؟

طبعا لم أرد بهذا النقل تشبيه أحد أطراف الصراع في مصرنا بالتتار أو تكفيره، وإنما يتصور ذلك أهل البدع من التكفيريين والخوارج أو من سار على دربهم من القطبيين الذين سيطروا على أزمة اتخاذ القرار في جماعة الإخوان وأنصارها.

ما أردته بهذا النقل هو التشابه في طريقة التفكير، بين "أبي الكرم" وبين من يهملون السنن الكونية التي قدرها الله على عباده، ويستعيضون عنها بالأماني والأحلام زاعمين أنهم متوكلون على الله!

وما عرفوا التوكل على الله حقا.. فإنهم لو عرفوه لآمنوا بما قاله الصادق المصدوق في هذا الشأن، في الحديث الذي أخرجه أحمد والترمذي وصححه الألباني: "لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدوا خماصا وتروح بطانا".
فلم تقعد هذه الطيور في أعشاشها وتكتفي بالأحلام والأماني، إنما أخذت بالأسباب التي يرزقها الله بها.. فهذه حقيقة التوكل على الله والتسعانة به، والتي أكدها النبي محمد صلى الله عليه وسلم في حديثه الذي رواه الإمام مسلم:
"احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز".

الشاهد في قصة أبي الكرم هنا، أنه نفى فائدة الأسباب.
كما ظن البعض في زماننا أنه بدون التأييد الشعبي يمكنه أن يستمر في حكم البلاد بسياسته (العاجزة-الإقصائية)! وظن أنه حينما يستعدي مؤسسات الدولة أو قطاعات عريضة ومؤثرة منها أنه يمكن أن ينجح!
وربما تطور الأمر عند بعض أتباعه فظن أن التخويف بعمليات إرهابية عشوائية في سيناء أو التلويح بخطاب "هانفجر مصر" يمكن أن يقلب موازين القوى لصالحه! مع تهيؤ الأرضية للانتشار البدع وتوغلها، لتضفي مسحة دينية (مبتدعة) على التفجير والتكفير.

استخدم "أبو الكرم" الدعاية جيدا لدرجة أن أتباعه تمكنوا من السيطرة على بلده، وطرد الشرطة منها!
وفي بلادنا خدع الكثير من البسطاء بعابرة (الانقلاب يترنح) (الحرس الجمهوري مؤيد لمرسي) (أمريكا تؤيد رابعة)! حتى وصل الأمر لمخاطبة الأمريكان علانية على منصة رابعة لدعوتهم للتدخل - أيا ما كان نوعه -!
وتطور الأمر مع البسطاء إلى تصور أن حركة "أبو الكرم" في رابعة كان يمكن أن تنجح لولا موقف "حزب النور" الذي لم يساند ويبايع أوهام "أبي الكرم"!
فبدلا من أن يفيق البسطاء من هذه الأوهام، وجدت حركة "أبي الكرم" الفرصة سانحة لتأخير إفاقة البسطاء بتعليق الشماعة كلها على حزب النور! سواء كانت الشماعة تحمل الفشل السياسي أو القرار الأحمق أو حتى دماء أبي الكرم نفسه!

يحلو للبعض أن يتجاوز الشرع والمنطق، وكل كوارث أبي الكرم، ليلقي اللائمة عليك: "ولكنك وقفت مع التتار ضد أبي الكرم المسلم"!
وأول طرفة تخطر على بال المرء في هذا الصدد: "عائلة أبي الكرم أنفسهم نادوا على التتار ليتدخلوا لصالحهم"!

ماذا تفعل إن تصالح الإخوان مع النظام الحالي؟ هل ستظل على بدعتك وتكفيرك له وتشبيهه بالتتار الكفار؟ لتلحق في النهاية بمصير الخوارج؟
أم ستتراجع وتتصالح دون أدنى شجاعة أدبية للاعتراف بالخطأ المنهجي (التكفير) والإداري (المغالبة)؟


ثم إن واقعنا الحقيقي بدون تخليط أتباع "أبي الكرم" ودعايتهم المضللة:
أن أبا الكرم المصري في حالتنا فشل أصلا في إزاحة "شحنة البلاد" ولم تهرب من أمامه كما حدث مع أبي الكرم الأصلي، فهو لم يصل إلى مرحلة مقابلة التتار! والحقيقة أن التتار الآن هم الذين يستفيدون من الصراع الدائر بين أتباع أبي الكرم وبين الدولة، لينقضوا على البلاد بعد إضعافها.

فهل يعيد التاريخ نفسه، أم سيفيق أتباع "أبي الكرم" على مصالحة قادمة؟
الله أعلم.