أوصيك في نظم الكلام بخمسة

  • 1938

في مقالين سابقين كان أحدهما بعنوان: "فكر قبل أن تفعل!" تحدثنا عن أهمية التريث قبل أي فعل أو حكم على الآخرين، وكان الثاني بعنوان: "الذي لا يعرف يقول عدس!" وسلطنا فيه الضوء على مثال للتسرع في الحكم على الآخرين بظاهر الأحداث؛ دون معرفة ما خفي من حيثياتها.

وبعد هذين المقالين كان لزاما أن نتعرض للطريقة المثلى التي علينا أن نحذو حذوها في فهم مواقف وكلام الآخرين، ومن ثم الحكم عليها، ولهذا قصة:

فقد كان هناك روائي ينقل عن أحد الكتب التي تحدثت عن الحروب التي دارت بين فرنسا وانجلترا، فمر به موقف أنه وفي إحدى المعارك البحرية، وقف ضابط الاستطلاع الفرنسي على سارية سفينته قائلا:
"أيها السادة الإنجليز أطلقوا النار أنتم أولا"

فاستدل الروائي بذلك على مدى كرم ودماثة أخلاق الفرنسيين؛ إذ كيف يطلب قائلهم من عدوهم أن يشرعوا بإطلاق النار عليهم أولا، بل ويصدر ذلك بقوله: "أيها السادة".

بينما في الحقيقة لم يكن الأمر كذلك. إنما كان هذا المستطلع على ساريته يترقب وصول الأسطول الإنجليزي، فلما رآه صاح في جنوده:(أيها السادة! الإنجليز! أطلقوا النار أنتم أولا.):
"أيها السادة" -تنبيها لهم وتحفيزا-، "الإنجليز"-يعني اقتربوا ورأيتهم-، "أطلقوا النار أنتم أولا"-اسبقوهم قبل أن يسبقوكم.

فقارن بين المعنى في الجملة الأولى بدون علامات الترقيم وفي الثانية بالعلامات، وبين ما فهمه الروائي أولا وبين حقيقة الأمر تعرف مكمن ما نريد أن نقف عليه.

قال أبو سهيل النيلي رحمه الله:
أوصيك في نظم الكلام بخمسة…إن كنت للموصي الشفيق مطيعا
لا تُغفِلَنْ سبب الكلام، ووقته…والكيفَ، والكمْ، والمكانَ جميعا"

سبب الكلام: إن الحكم على الكلام والأفعال ومن ثم على قائله وفاعلها إنما يمر بعدة مراحل نحتاج أن نقف معها، وها هو قول ربنا يحضنا على التبين "فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين" وفي قراءة "فتثبتوا"، وإن من التثبت أن تنظر ما هو سبب هذا القول أو الفعل فربما تستنكر أمرا لعدم معرفتك بملابساته ويكون فاعله له مسوغ في فعله أو قوله يعذر به، حتى وإن كان فعله هو من أشد الأمور المنكرة وفي قصة حاطب بن أبي بلتعة دليل على ذلك فلتراجعه.

ووقته: فقد يقول القائل كلاما ثم يرجع بعد ذلك ليقول كلاما آخر، ينسخ به الأول حذفا أو تعديلا أو توضيحا، فتحتاج إلى معرفة الأخير منهما لكي تأخذه عنه، مثل نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن زيارة القبور للنساء ثم الإذن لهن ونحو ذلك.

والكيف: كيف قال القائل كلامه؟ وفي القصة التي سقناها دليل واضح على ذلك إذ بعدم معرفة كيفية القول وقع الروائي في الحكم الخاطئ.

والكم: فكمية الكلام تؤثر على معناه، فكلمة ليست كجملة، واستخدام لفظة ليست كغيرها، وقد ابتلينا ولا حول ولا قوة إلا بالله بمن يزيد أو ينقص ليلوي عنق الكلام لمصلحته أو ليوجهه حيث شاء.

والمكان: فما قيل في مناظرة غير ما قيل في خصومة ومحاكمة، فقد يصدر من المرء كلمة سوء لم يكن له قولها إلا بسبب دفع الظلم عن نفسه، أو أنه شاهد على حادثة وطلب منه أن يقص ما رآه.

وليس الأمر محصورا في ذلك بل على المتكلم كذلك أن يراعي هذه الوصايا الخمس فإذا تكلم لابد أن يكون لكلامه سبب، وأن يراعي الوقت المناسب لقوله، وأن يقوله بكيفية تفهم من يخاطبه، ويكون بكمية لا يمل سامعه منها ولا يحتاج إلى مزيد إيضاح، وأيضا يراعي المكان الذي يتحدث فيه من حيث نوعية المستمعين ونحو ذلك.

إن أمر الإنصاف عزيز، ومن أعظم الإنصاف أن تحمل الكلام على أفضل معنى حتى يتبين لك غيره، وأن تأخذ المواقف بأفضل تصور لها حتى تتثبت.

يروى: لو رأيت أحد إخواني ولحيته تقطر خمرا لقلت ربما سُكبت عليه .. ولو وجدته واقفا على جبل يقول: "أنا ربكم الأعلى" لقلت: ربما يقرأ الآية.
فما أجمل حسن الظن، وعدم التسرع في إصدار الأحكام، والتماس الأعذار وإقالة العثرات، وما أشد حاجتنا إلى التثبت في النقل والإنصاف في الحكم وأن نكون دعاة لا قضاة.