في رياض سورة الكوثر

  • 113

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
هذه السورة العظيمة على وجازتها فقد جمعت وأوعت، ويتضح ما فيها من آخرها.. بدأت هذه السورة بـ "إن" وهي دالة على التأكيد، ثم كان الإخبار بالفعل الماضي "أعطيناك" وهو دال على التحقيق، وهو أيضا يشير إلى ما سبق القدر في حقه صلى الله عليه وسلم من اصطفاء الله له في الدنيا والآخرة، والكوثر هو الخير الكثير الذي أعطاه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم كما قال ابن عباس، ومنه نهر الكوثر.

فمما أعطاه الله للنبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا الهدي والنصر والتأييد وقرة العين والنفس وشرح الصدر، ونعّم قلبه بذكره وحبه بحيث لايشبه نعيمه نعيما في الدنيا البتة، وأعطاه في الآخرة الوسيلة والمقام المحمود، وجعله أول من يفتح له ولأمته باب الجنة، وأعطاه في الآخرة لواء الحمد والحوض العظيم في موقف القيامة إلى غير ذلك من العطايا.

وسبب المزيد من هذا الإعطاء: الصلاة والنسك (فصل لربك وانحر).. أمره الله أن يجمع بين هاتين العبادتين العظيمتين، وهما الصلاة والنسك الدالتان على القرب والتواضع والافتقار وحسن الظن، وقوة اليقين وطمأنينة القلب إلى الله، وإلى عدله وأمره وفضله، وخلفه عكس أهل الكبر والنفرة وأهل الغني الذين لا حاجة في صلاتهم إلى ربهم يسألونه إياها، والذين لا ينحرون له خوفا من الفقر وتركا لإعانة الفقراء وإعطائهم، وسوء الظن منهم بربهم.
والمقصود: أن الصلاة والنسك هما أجلّ ما يتقرب به إلى الله، فإنه أتى فيهما بالفاء الدالة على السبب، وقد امتثل النبي صلى الله عليه وسلم أمر ربه فكان كثير الصلاة لربه كثير النحر، حتى نحر بيده في حجة الوداع ثلاثا وستين بدنة وكان ينحر في الأعياد وغيرها.

وقوله (إن شانئك هو الأبتر) أي مبغضك، والأبتر هو مقطوع النسل الذي لا يولد له خير ولا يتولد عنه عمل صالح.
قيل لأبي بكر بن عياش: إن بالمسجد قوما يجلسون ويجلس إليهم. فقال: من جلس للناس جلس الناس إليه، ولكن أهل السنة يموتون ويحيى ذكرهم، وأهل البدعة يموتون ويموت ذكرهم؛ لأن أهل السنة أحيوا ماجاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان لهم نصيب من قوله تعالى: (ورفعنا لك ذكرك) الشرح.
وأهل البدعة شنئوا ماجاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فكان لهم نصيب من قوله (إن شانئك هو الأبتر) وكذلك الكفار ومن يبغضون هديه حتى ولو بجهل لهم نصيب من هذه الآية.. فالحذر الحذر أيها المسلم من أن تكره شيئا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، أو ترده لأجل هواك أو أنه لم يوافق عقلك أو انتصارا لمذهبك أو شيخك، أو لأجل اشتغالك بالشهوات، أو بالدنيا، فإن الله لم يوجب على أحد طاعة أحد إلا طاعة رسوله، والأخذ بما جاء به بحيث لو خالف العبد جميع الخلق واتبع الرسول ما سأله الله عن مخالفة أحد، فإن من يطيع أو يطاع إنما يطاع تبعا للرسول، وإلا لو أمر بخلاف ما أمر به الرسول ما أطيع.

فاعلم ذلك واسمع وأطع واتبع ولا تبتدع؛ تكن أبتر مردودا عليك عملك بل لاخير في عمل أبتر من الاتباع، ولا خير في عامله، فكل مبتدع أبتر، وكل عالماني عمله متبّر، وكل متبع في الملأ الأعلى سيذكر، والله أعلم وأعلى وأجل وأكبر، وصلى اللهم وسلم على صاحب الوجه الأنور والبنان المطهر واللسان المعطر الذي طاب في المظهر والمخبر، اللهم اجمعنا به على نهر الكوثر، والحمد لله رب العالمين.