الخُلق المفقود

  • 117

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وبعد:
عبادة عظيمة يغفل عنها الناس، أجرها عظيم، فعلها يسير، خُلق غاب عنا في خِضم الأحداث الجارية، والفتن المتتالية، وفي ظل هذه الأزمة الحقيقية، أزمة الأخلاق، نفقد خلقًا من أهم الأخلاق، وعملا من أهم الأعمال.
إنه (السرور الذي تدخله على مسلم)، وهو من أحب الأعمال إلى الله.
فيا هل ترى أيها القارئ الكريم هل أنت من الذين يتخلقون بهذا الخلق؟ هل أنت من أصحاب هذا العمل، عش معي هذه اللحظات ولا تملّ.
إنها سعادة غامرة تلك التي يستشعرها المرء عندما يسعد الآخرين أو يشارك في إسعادهم أو تخفيف آلامهم..سعادة لا تحس بها إلا النفوس الطاهرة النقية، التي رجاؤها دوما وجه ربها وسعيها دوما هو في طرقات الخير المضيئة.

إن الحياة كد وتعب ومشقة وصعاب ومشكلات واختبارات وآلام، وما يصفو منها ما يَلْبثُ أن يتكدر، وليس فيها من أوقات صفاء رائق إلا أوقات العبادة المخلصة لرب العالمين سبحانه.
والناس.. كل الناس بحاجة إلى يد حانية، تربت على أكتافهم في أوقات المصائب، وتقوم انكسارهم في أوقات الآلام، وتبلل ريقهم بماء رقراق عند جفاف الحلوق.
ومن طالت به خبرته بالحياة علم أن أعلى الناس فيها قدرا هم الناصحون لغيرهم بالعلم النافع والمفرجون كرب الناس والميسرون على المعسرين والباذلون جهدهم لإسعاد غيرهم..
وقال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9].
وتذكر معي ذلك الصحابي الذي أسرع بكل قوته ليبشر الثلاثة الذين خلفوا بعفو الله عنهم وصدره يمتلئ حبا وفرحا وسعادة وسرورا، حتى إنه لم ينتظر حتى يصل إليهم؛ بل بدأ يناديهم من بعيد من على جبل سلع بأعلى صوته يا كعب بن مالك ابشر... يقول كعب: فخررت ساجدا وعرفت أنه قد جاء فرج، فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله عز وجل علينا حين صلى صلاة الفجر فذهب الناس يبشروننا فذهب قِبَلَ صاحبيّ مبشرون، وركد إلى رجل فرسا، وسعى ساع من أسلم قبلي وأفي على الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيّ فكسوته إياه ببشراه، والله ما أملك غيرهما يومئذ، فاستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت أتأمل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئونني بالتوبة، ثم قال كعب فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور: "أبشر بخير يوم مر عليك مذ ولدتك أمك".
فانظر إلى ذاك البشر والسرور الذي على محيا النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة بعد علمهم بالخير الذي نزل بصاحبهم.. رضوان الله عليهم أجمعين.
وبينا أنت تتأمل تلك المواقف طالع هذا الحديث الثابت من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أحب الأعمال إلى الله إدخال السرور على قلب المؤمن، وأن يفرِّج عنه غمًا، أو يقضي عنه دينًا، أو يطعمه من جوع) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، وحسنه الألباني في الصحيحة 1494.
وفي رواية للطبراني: "إن أحب الأعمال إلى الله تعالى بعد الفرائض: إدخال السرور على المسلم، كسوت عورته، أو أشبعت جوعته، أو قضيت حاجته".
وللطبراني أيضا عن عائشة رضي الله عنها: "من أدخل على أهل بيت من المسلمين سرورا لم يرض الله ثوابا دون الجنة".
وله عن أنس رضي الله عنه قال: "مَن لَقيَ أخاهُ المُسلِمَ بِما يُحِبّ لِيَسُرَّهُ بِذلك، سَرّهُ اللّهُ عزّ وجَلّ يومَ القِيامةِ".
وفي الصحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه "

إنها عبادة إذن أيها القارئ الكريم، ما أن يستصحب العبد فيها نية صالحة، إنها من أحب الأعمال إلى الله تعالى.. فتأمل.

إن مجتمعاتنا تلك - التي تعيش الآن في صراعات متشابكة على المصالح الشخصية - لفقيرة إلى فهم ذلك المعنى العظيم، الذي يصرخ فينا أن سارعوا إلى الرفق بالناس وتفريج الكرب عنهم، وتخفيف آلامهم وإطعام جائعهم وقضاء الدين عن مدينهم، وإهداء السرور لحزينهم.

ويوم يتعلم الدعاة إلى الله معنى إدخال السرور على المسلم ويطبقون مقتضاه سيضربون المثال الحي لمجتمع افتقدناه عبر سنين طويله.

وما أروع هؤلاء الصالحين ذوو النفوس الطاهرة الذين يسعون دوما في إدخال السرور على إخوانهم، فيسألون عن أحوالهم ويسارعون في نجدة ملهوفهم، ومداواة مريضهم وحل مشكلاتهم مهما كلفهم ذلك، تعبا في أجسادهم أو بذلا من أموالهم أو شغلا في أوقاتهم، رجاء بسمة سرور ورضا من هذا الحزين بعد زوال حزنه، فيسرها الصالح في نفسه ليعدها في صالحات أعماله يوم اللقاء.

ولكم بذل نبينا الحبيب صلى الله عليه وسلم من نفسه الجهد رجاء نفع الناس وإسعادهم في الدنيا والآخرة ففي الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها أنها سئلت: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قاعدًا؟ قالت: "نعم، بعدما حَطَمه الناس" أخرجه مسلم.

قال القاسمي رحمه الله: "وللأخوة حق في قضاء الحاجات والقيام بها قبل السؤال وتقديمها على الحاجات الخاصة وهذه أيضًا لها درجات فأدناها: القيام بالحاجة عند السؤال والقدرة ولكن مع البشاشة والاستبشار وإظهار الفرح وقبول المنة، قال بعضهم: إذا استقضيت أخاك حاجة فلم يقضها فذكره الثانية فلعله أن يكون قد نسي، فإن لم يقضها فكبر عليه واقرأ هذه الآية: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} [الأنعام: 36]، وكان في السلف من يتفقد عيال أخيه وأولاده بعد موته أربعين سنة يقوم بحاجاتهم يتردد كل يوم إليهم ويمونهم من ماله، فكانوا لا يفقدون من أبيهم إلا عينه، بل كانوا يرون منهم ما لم يروا من أبيهم في حياته، وكان أحدهم يتردد إلى باب دار أخيه يقوم بحاجته من حيث لا يعرفه أخوه، وبهذا تظهر الشفقة والأخوة، وإذا لم تُثْمِر الشفقة حتى يشفق على أخيه كما يشفق على نفسه فلا خير فيها، قال ميمون بن مهران: من لم تنتفع بصداقته لم تضرك عداوته.
وبالجملة فينبغي أن تكون حاجة أخيك مثل حاجتك أو أهم من حاجتك، وأن تكون متفقدًا لأوقات الحاجة غير غافل عن أحواله كما لا تغفل عن أحوال نفسك، وتغنيه عن السؤال إلى الاستعانة، ولا ترى لنفسك حقًا بسبب قيامك بها، بل تتقلد منه بقبول سعيك في حقه وقيامك بأمره" تهذيب موعظة المؤمنين

وسُئِلَ الإمام مالك: "أي الأعمال تحب؟" فقال: "إدخال السرور على المسلمين، وأنا نَذَرتُ نفسي أُفرِج كُرُبات المسلمين".
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما نحن في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على راحلة له، فجعل يصرف بصره يمينًا وشمالاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان معه فضلُ ظهر فليعُد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له)، فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحدٍ منا في فضل" رواه مسلم.

والصالح لن يعدم طريقا لإدخال السرور على أخيه المسلم، في تبشيره بالبشرى تارة أو إخباره بأخبار الخير التي ينتظرها تارة أو بقضاء دينه أو بالهدية، أو بإخباره أنه يحبه في الله، أو بإكرام أهله وولده وصحبه، أو بتعليمه العلم النافع له، أو بتوقيره بين الناس أو بالمسارعة في محباته دوما وبأي حال، وبنصحه فيما هو بصدده وغيرها كثير جدًا، وهي معلومة معروفة، ولكننا فقط نذكر.
وقد يكون إدخال السرور على المسلم بكلمة خير واحدة أو ببسمة رائقة أو بمصافحة مقبلة فتأمل ذلك.

وفي النهاية:
ما أحوجنا إلى هذا الخلق في هذه الأيام، وهذه العبادة العظيمة، وهذا العمل الجليل اليسير، اللهم اجعلنا من الذين يدخلون السرور على إخوانهم يا رب العالمين. آمين.