النقاب .. شريعة ربانية

  • 569

الحمد لله وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:

فإن مسألة الحجاب الكامل وستر المرأة جميع بدنها بما في ذلك الوجه والكفين من العبادات والقربات المشروعة، التي تناقلها أهل العلم جيلاً بعد جيل، بل هو المعروف المشهور فى الرعيل الأول، كما في قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 59].

قال عبيدة السلماني رحمه الله: إن نساء المؤمنين كنَّ يُدنين عليهن الجلابيب من فوق رؤوسهن؛ حتى لا يظهر إلا عيونهن لأجل رؤية الطريق"، فستر نساءُ النبيِّ صلَّى الله عليْه وسلَّم بالحجاب جميعَ البدَن بِما فيه الوجْه، ولا نزاع في ذلك بين المسلمين كما قال العلامة الشنقيطي، ولم يكن هذا خاصاً بأزواج النبى صلى الله عليه وسلم بل الأمر لسائر نساء الأمة، لذلك لما نزلت: "{وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31].

قال الحافظ ابنُ حجر: (فاختمرنَ)؛ أي: غطَّين وجوهَهنَّ، وصفة ذلك: أن تضع الخمار على رأسها، وترميه من الجانب الأيمن على العاتق الأيسر، وهو التقنُّع". اهـ ، "فعن أم المؤمنين عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: "يرحمُ الله نساءَ المهاجرات الأول؛ لمَّا أنزل اللهُ: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}، شقَقْنَ مُروطَهنَّ فاختمرْن بها".

وعنها أيضا: "لمَّا أنزلت هذه الآية: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}، أخذْنَ أُزرهنَّ فشقَقْنها من قبل الحواشي، فاختمرْن بها" (رواهما البخاري). قال بدر الدين العيني في "عمدة القاري شرح صحيح البخاري": " قولها: فاختمرْن بها؛ أي: غطين وجوههن بالمروط التي شققنها"، فكان شعار الحرائر دون الإماء كما روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه في زواج النبي صلى الله عليه وسلم بصفية رضى الله عنها: " قال: " أقام النبي صلى الله عليه وسلم بين خيبر والمدينة ثلاثا يبني عليه بصفية بنت حيي، فدعوت المسلمين إلى وليمته، فما كان فيها من خبز ولا لحم، أمرنا بالأنطاع، فألقي فيها من التمر والأقط والسمن، فكانت وليمته، فقال المسلمون: إحدى أمهات المؤمنين، أو ما ملكت يمينه، فقالوا: إن حجبها فهي من أمهات المؤمنين، وإن لم يحجبها فهي مما ملكت يمينه، فلما ارتحل وطأ لها خلفه، ومد الحجاب بينها وبين الناس".

_ مسألة القطع بثبوته ومشروعيته مجمع عليها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "الفتاوى": "وثبت في الصحيح: أنَّ المرأةَ المُحرِمة تُنهى عن الانتقاب والقفازين، وهذا مما يدل على أنَّ النقاب والقفازين كانا معروفينِ في النِّساء اللاتي لم يُحرمْن، وذلك يقتضي سترَ وجوههن وأيديهن"، ولسنا بصدد الفصل في حكمه، فلم يختلف أهل العلم فى مشروعيته، ولكن وقع الخلاف بينهم في فرضيته أو فضيلته، وكتب الفقه الإسلامي مليئة متكاثرة بهذه النقول، ننقل على سبيل الاختصار كلام بعض أئمة المذاهب الأربعة فى حكم النقاب ومشروعيته:

_المذهب الحنفي:_ قال الشيخ داماد افندي (مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر ـ 1 / 81): " وفي المنتقى: تمنع الشابة عن كشف وجهها لئلا يؤدي إلى الفتنة.

وفي زماننا المنع واجب بل فرض لغلبة الفساد وعن عائشة: جميع بدن الحرة عورة إلا إحدى عينيها فحسب، لاندفاع الضرورة " اهـ .، وقال الشيخ محمد علاء الدين الإمام (الدر المنتقى في شرح الملتقى ـ 1 / 81 ( المطبوع بهامش مجمع الأنهر ): " وجميع بدن الحرة عورة إلا وجهها وكفيها، وقدميها في رواية، وكذا صوتها، وليس بعورة على الأشبه، وإنما يؤدي إلى الفتنة، ولذا تمنع من كشف وجهها بين الرجال للفتنة " اهـ .

وقال العلامة ابن نجيم ( البحر الرائق شرح كنز الدقائق ـ 1 / 284): " قال مشايخنا: تمنع المرأة الشابة من كشف وجهها بين الرجال في زماننا للفتنة " اهـ ، وكثير من النقول لأئمة المذهب تدل على مشروعيته، فإذا خشيت الفتنة تعين على المرأة.

_المذهب المالكي:_ روى الإمام مالك (الموطأ ـ 2 / 234 بشرح الزرقاني، وانظر نحوه في: أوجز المسالك ـ 6 / 196)، عن هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر أنها قالت: " كنا نُخمّر وجوهنا ونحن محرمات، ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصديق " .

قال الشيخ الزرقاني: " زاد في رواية: فلا تنكره علينا، لأنه يجوز للمرأة المحرمة ستر وجهها بقصد الستر عن أعين الناس، بل يجب إن علمت أو ظنت الفتنة بها، أو يُنظر لها بقصد لذة .

قال ابن المنذر: أجمعوا على أن المرأة تلبس المخيط كله، والخفاف، وأن لها أَنْ تغطي رأسها، وتستر شعرها، إلا وجهها، فَتُسدل عليه الثوب سدلًا خفيفًا تستتر به عن نظر الرجال، ولا تُخَمِّر، إلا ما روي عن فاطمة بنت المنذر، فذكر ما هنا، ثم قال: ويحتمل أن يكون ذلك التخمير سدلًا، كما جاء عن عائشة قالت: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مُرَّ بنا سَدَلْنا الثوب على وجوهنا ونحن محرمات، فإذا جاوزْنا رفعناه " اهـ .، وقال الشيخ الحطَّاب (مواهب الجليل لشرح مختصر خليل ـ 1 / 499): " واعلم أنه إن خُشي من المرأة الفتنة يجب عليها ستر الوجه والكفين . قاله القاضي عبد الوهاب، ونقله عنه الشيخ أحمد زرّوق في شرح الرسالة، وهو ظاهر التوضيح . هذا ما يجب عليها "اهـ .

وقال ابن العربي: " والمرأة كلها عورة، بدنها، وصوتها، فلا يجوز كشف ذلك إلا لضرورة، أو لحاجة، كالشهادة عليها، أو داء يكون ببدنها، أو سؤالها عما يَعنُّ ويعرض عندها " أحكام القرآن ( 3 / 1579)، وقال القرطبي ـرحمه الله تعالى ـ في تفسيره ( 12 / 229): " قال ابن خُويز منداد ــ وهو من كبار علماء المالكيةـ : إن المرأة اذا كانت جميلة وخيف من وجهها وكفيها الفتنة؛ فعليها ستر ذلك، وإن كانت عجوزًا أو مقبحة؛ جاز أن تكشف وجهها وكفيها " اهـ ._

_المذهب الشافعي:_قال الشيخ الشرواني: " قال الزيادي في شرح المحرر: إن لها ثلاث عورات: عورة في الصلاة، وهو ما تقدم ـأي كل بدنها ما سوى الوجه والكفين-. وعورة بالنسبة لنظر الأجانب إليها: جميع بدنها حتى الوجه والكفين على المعتمد.

وعورة في الخلوة وعند المحارم: كعورة الرجل "اهـ ـأي ما بين السرة والركبةـ ( حاشية الشرواني على تحفة المحتاج ـ 2 / 112)، وذكر ابن قاسم العبادي في (حاشيته على تحفة المحتاج ـ 3 / 115) نحو ذلك على العبارة نفسها، فقال: " فيجب ما ستر من الأنثى ولو رقيقة ما عدا الوجه والكفين.

ووجوب سترهما في الحياة ليس لكونهما عورة، بل لخوف الفتنة غالبًا"، وقال الشيخ محمد بن قاسم الغزي: " وجميع بدن المرأة الحرة عورة إلا وجهها وكفيها، وهذه عورتها في الصلاة، أما خارج الصلاة فعورتها جميع بدنها "اهـ (فتح القريب في شرح ألفاظ التقريب ( ص 19)، وقال الشيخ تقي الدين الحصني (كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار ( 1 / 181 ): "والمرأة متنقّبة إلا أن تكون في مسجد وهناك أجانب لا يحترزون عن النظر، فإن خيف من النظر إليها ما يجر إلى الفساد حرم عليها رفع النقاب."، وغير ذلك من النصوص لعلماء المذهب.

_ المذهب الحنبلي:_قال الإمام أحمد بن حنبل ـرحمه الله تعالى ـ : " كل شيء منها ــأي من المرأة الحرةــ عورة حتى الظفر " اهـ (زاد المسير في علم التفسير ـ 6 / 31 )، قال الشيخ منصور بن يونس بن إدريس البهوتي (كشاف القناع عن متن الإقناع ـ 1 / 309) ): « والحرة البالغة كلها عورة في الصلاة حتى ظفرها وشعرها » لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " المرأة عورة " رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح .

وعن أم سلمة أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم: " أتصلي المرأة في درع وخمار وليس عليها إزار؟ قال: إذا كان الدرع سابغًا يغطي ظهور قدميها " رواه أبو داود، وصحح عبد الحق وغيره أنه موقوف على أم سلمة. " إلا وجهها ": لا خلاف في المذهب أنه يجوز للمرأة الحرة كشف وجهها في الصلاة. ذكره في المغني وغيره. " قال جمع: وكفيها » واختاره المجد، وجزم به في العمدة والوجيز لقوله تعالى: وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا [ النور : 31 ] قال ابن عباس وعائشة: وجهها وكفيها. رواه البيهقي، وفيه ضعف، وخالفهما ابن مسعود. " وهما " أي: الكفان. " والوجه" من الحرة البالغة "عورة خارجها " أي الصلاة " باعتبار النظر كبقية بدنها " كما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: " المرأة عورة"، ونصوص المذهب مشهورة بذلك.

_ حوار الشيخ الشعراوي مع جريدة الأخبار، نشرته بتاريخ 1 / 4 / 1994م:_ أختم بما قاله الشيخ الشعراوي متعجبا من أمر قوم يصنعون شعارات جوفاء يفصلونها بالهوى، يدخلون فيها ما يشاءون ويخرجون منها ما يريدون، رد رحمه الله على من يهاجم الحجاب والنقاب من زاعمي الحريات قائلاً:(( وعجيب أيضا وغريب أمر هؤلاء، وهم في رفضهم للحجاب والنقاب يرفعون شعار الحرية الشخصية!! ونحن نسألهم: أهناك حرية بلا ضوابط تمنع الجنوح بها إلى غير الطريق الصحيح؟ وأية حرية تلك التي يعارضون بها تشريعات السماء؟ هذه الحرية التي تضيق الخناق على المحجبات، وتترك الحبل على الغارب للسافرات فَيُحرضن على الجريمة بعد الافتتان! وحسبنا من سوابق الخطف للفتيات، واغتصاب المائلات المميلات، حسبنا من ذلك دليلا على حكمة الله البالغة فيما شرع من ستر!! إن هؤلاء يحاولون التدخل في صميم عمل الله، ويريدون أن تُشَرِّع الأرض للسماء وخسئوا وخاب سعيهم )) اهـ .

وهذا معلوم مشهور بين كل علماء الإسلام، ونحن بصدد التذكير بهذا الفضل والخير لا الفصل في وجوبه من استحبابه، فهذا مما ساغ الخلاف فيه، أما اتهامه بالبدعة أو أي وصف ينقص من فضيلته فهذا لا سوغ فيه، والله أسأل أن يهدي فتيات المسلمين ونسائهم إلى ما فيه رضاه؛ والحمد لله رب العالمين .