الطاعة في البرد تقي زمهرير جهنم

  • 772

بقلم: الأستاذ الدكتور محمود عبدالمنعم

الحمد لله وكفى وصلاةً وسلاما على عباده الذين اصطفى وبعد:

فإن من حكمة الله تبارك وتعالى أن جعل الفصول الأربعة متعاقبة على سطح الأرض طوال العام؛ صيف وشتاء وربيع ثم خريف، تتعاقب على الناس على مر الدهور والأيام بشكل انسيابي متقن، لا يُحْدِث بلبلة في الكون وأضرارا للمخلوقات، فكيف لو تخيلنا سطح الأرض كأسطح بعض الكواكب يوم حر هجير وفجأة شتاء زمهرير؟ لهلكنا والله ساعتها ولما بقي في الأرض حياة، ولكن رحمة الله شملت جميع خلقه، وقليل من عباده المتفكر، وقليل من هذا القليل الشاكر المعتبر، فإذا نظرنا لأحوالنا هذه الأيام نجد الكثير من الناس يتشكى الحال من شدة البرد، فالإنسان بطبعه ضعيف قال تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا}عقيدة المسلم في البردفإن أول صفة من صفات المتقين، أنهم يؤمنون بالغيب، ومن هذا الغيب سبب وقوع البرد وأنه أثر من نفس جهنم، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ: "قَالَتِ النَّارُ: رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأْذَنْ لِي أَتَنَفَّسْ، فَأْذِنْ لَهَا بِنَفَسَيْنِ، نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَمَا وَجَدْتُمْ مِنْ بَرْدٍ، أَوْ زَمْهَرِيرٍ فَمِنْ نَفَسِ جَهَنَّمَ، وَمَا وَجَدْتُمْ مِنْ حَرٍّ، أَوْ حَرُورٍ فَمِنْ نَفَسِ جَهَنَّم"-الأدلة على أن الزمهرير لون من ألوان العذاب في جهنمقال الله تعالى {هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} [ص:57].

وقال الله عز وجل: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً، إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقا} [النبأ:24].

قال ابن عباس: الغساق: الزمهرير البارد الذي يحرق من برده.

وقال مجاهد: هو الذي لا يستطيعون أن يذوقوه من برده. وقيل: إن الغساق: البارد المنتن. أجارنا الله تعالى من جهنم بفضله وكرمه.وقال تعالى في وصف نعيم أهل الجنة: {لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا} [الإنسان:13] لا يرَوْن فيها شمسا فيؤذيهم حرّها، ولا زمهريرا، وهو البرد الشديد، فيؤذيهم بردها.

عن مجاهد قال: الزمهرير: البرد المفزع، عن قتادة قال: قال الله: {لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا} يعلم أن شدّة الحرّ تؤذي، وشدّة القرّ تؤذي، فوقاهم الله أذاهم. عن السُّدِّيّ، عن مرّة بن عبد الله قال في الزمهرير: إنه لون من العذاب.-برد الدنيا يذكر بزمهرير جهنم ومن فضائل الشتاء: أنه يذكر بزمهرير جهنم ويوجب الاستعاذة منها، وفي حديث أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان يوم شديد البرد فإذا قال العبد: لا إله إلا الله ما أشد برد هذا اليوم: اللهم أجرني من زمهرير جهنم. قال الله تعالى لجهنم: إن عبدا من عبادي استجار بي من زمهريرك وإني أشهدك أني قد أجرته" قالوا ما زمهرير جهنم؟ قال: "بيت يلقى فيه الكافر فيتميز من شدة البرد".

قام زبيد اليامي ذات ليلة للتهجد فعمد إلى مطهرة له كان يتوضأ منها، فغمس يده في المطهرة فوجد الماء باردا شديدا كاد أن يجمد من شدة برده، فذكر الزمهرير ويده في المطهرة، فلم يخرجها حتى أصبح، فجاءته جاريته وهو على تلك الحال فقالت: ما شأنك يا سيدي لمَ لا تصلي الليلة كما كنت تصلي وأنت قاعد هنا على هذه الحالة؟ فقال: ويحك إني أدخلت يدي في هذه المطهرة فاشتد عليَّ برد الماء، فذكرت به الزمهرير، فوالله ما شعرت بشدة برده حتى وقفت علي فانطوي لا تحدثي بهذا أحدا ما دمت حيا فما علم بذلك أحد حتى مات رحمه الله-جزاء الصابرين على الطاعة في البردوقال بعض العارفين: من لم يعرف ثواب الأعمال ثَقُلت عليه في جميع الأحوال. وَأخرج الطَّبَرَانِيّ فِي السّنة وَابْن مرْدَوَيْه عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "رَأَيْت رَبِّي فِي أحسن صُورَة، قَالَ: يَا مُحَمَّد. فَقلت: لبيْك رَبِّي وَسَعْديك، ثَلَاث مَرَّات. قَالَ: هَل تَدْرِي فيمَ يخْتَصم الْمَلأ الْأَعْلَى؟ قلت: لَا.

فَوضع يَده بَين كَتِفي، فَوجدت بردهَا بَين ثديي، ففهمت الَّذِي سَأَلَني عَنهُ، فَقلت: نعم يَا رب يختصمون فِي الدَّرَجَات وَالْكَفَّارَات. قلت: الدَّرَجَات: إسباغ الْوضُوء بالسبرات، وَالْمَشْي على الْأَقْدَام إِلَى الْجَمَاعَات، وانتظار الصَّلَاة بعد الصَّلَاة. وَالْكَفَّارَات: إطعام الطَّعَام وإفشاء السَّلَام وَالصَّلَاة بِاللَّيْلِ وَالنَّاس نيام".عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من غدا إلى المسجد أو راح أعدَّ الله له نُزُلاً كلما غدا أو راح".

وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟". قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرِّباط، فذلكم الرباط". رواه مسلم، ومالك في " الموطأ "، والنسائي، وغيره.

-رخص المسلم في البرد تدل على يسر الإسلامأ: يجوز له التيمم مع وجود الماء إذا خشي الضرر، فعن عمرو بن العاص قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهْلِكَ، فتيممتُ، ثم صليتُ بأصحابي الصبحَ، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: "يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟". فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله يقول: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا. ب: يجوز استعمال الماء الساخن عند وجوده ويؤجر على نيته أنه لو لم يجد الماء الساخن تطهر بالماء البارد، يقول الله تعالى {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} [النساء:147]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لَغنيٌّ عن تَعذيبِ هذا نَفْسَهُ". ج: المسح على العمامة والخفين والجوربين أو ما قام مقامهما، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ فَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ وَعَلَى عِمَامَتِهِ وَخُفَّيْهِ.

وَعَنه رضي الله عنه أيضا: أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأ وَمسح على الجوربين والنعلين. رَوَاهُ الْخَمْسَة إِلَّا النَّسَائِيّ.

قَالَ أَبُو دَاوُد: (وَمسح على الجوربين: عَليّ بن أبي طَالب، وَابْن مَسْعُود والبراء، وَأنس، وَأَبُو أُمَامَة، وَسَهل بن سعد وَعَمْرو بن حُرَيْث، وروى ذَلِك عَن عمر وَابْن عَبَّاس وَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ).

د: يجوز له الصلاة في الملحفة تقيه البرد، وكذلك استعمال كل ما يعينه على الطاعة ما دام مباحا.-ما المطلوب من المسلم في البرد أ: أن يصحح اعتقاده في البرد. ب: تذكر زمهرير جهنم.

ج: أن يردد المسلم الذكر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم عند اشتداد البرد: "لا إله إلا الله ما أشد برد هذا اليوم، اللهم أجرني من زمهرير جهنم" كما سبق بيانه في العنصر الثالث. ث: الصبر على الطاعة د: جواز الأخذ بالرخص الشرعية السابق بيانها في العنصر السابق، روى الإِمَام أَحْمد وَصَححهُ ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان عَن عمر قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: "إِن الله تَعَالَى يحب أَن تُؤْتى رخصه كَمَا يكره أَن تُؤْتى مَعْصِيَته" وَفِي رِوَايَة." كَمَا يحب أَن تُؤْتى عَزَائِمه". هـ: مواساة الفقراء والمحتاجين بما يستطيع، مما يعينهم من اتقاء البرد أو التخفيف من لأوائه من كساء وغطاء وغير ذلك. و: أن يتذكر أهلنا في سوريا واليمن والعراق وليبيا وغيرها؛ من اللاجئين والمشردين في دول العالم من النساء والأطفال وكبار السن وغيرهم، الذين يضربهم البرد، فندعو لهم أن يفرج الله عنهم ما هم فيهز: أن نتذكر نعمة الله علينا في بلدنا مصر، أن وقانا هذه الويلات بفضله ثم بحكمة قرارات هذه الدعوة المباركة النابعة عن علم بالشرع والواقع والتاريخ وكذا بتماسك الجيش.

وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى بفضله ومنه اللهم أمين

وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.